تحت هذا العنوان كتب فيتالي تسيبليايف في “أرغومنتي إي فاكتي” حول ما حدث منذ 20 عاما، حين تنازل الرئيس الأول لروسيا، بوريس يلتسين، عن السلطة لخلفه فلاديمير بوتين .
جاء في المقال:
“قبل 20 عاما، عشية العام الجديد، شهدت البلاد صدمة: أعلن الرئيس يلتسين، في خطاب متلفز للشعب الروسي، استقالته المبكرة على نحو غير متوقع.
تلخص خطاب بوريس يلتسين، في ذاكرة الناس، في عبارة واحدة: “أنا متعب، سأغادر”. في واقع الأمر، ما قاله يلتسين فعلا هو “سأغادر” ولم يقل “أنا متعب”، تحدث عن “ليال بلا نوم، تجارب مؤلمة”، حول “ما يجب القيام به حتى يتمكن الناس من العيش بطريقة أسهل وأفضل”، قال إنه “فعل كل ما بوسعه”.. لكن كلمة “أنا متعب” لم تظهر في الخطاب، على العكس أكد أنه يغادر ليس “لدواع صحية”.
بمعنى ما، تبين أن الخرافة تكمن في أحد الأسباب التي جعلت يلتسين يلقي كلمته التاريخية، وهذا السبب حدده في بداية الخطاب، حينما قال: “لم يتبق سوى القليل على تلك اللحظة السحرية في تاريخنا، حلول عام 2000، قرن جديد، ألفية جديدة.. لقد اتخذت قرارا، فكرت طويلا وبألم فيه. اليوم أستقيل في آخر أيام القرن الماضي”. وفي النهاية، بينما يهنئ المواطنين فعليا بالعطلة، يعود للإشارة إلى القرن الجديد: سنة جديدة سعيدة! قرن جديد سعيد يا أعزائي!
كانت الفكرة جميلة حقا: إنهاء قرننا السياسي بالتزامن مع نهاية قرن في تاريخ البشرية. إلا أن بوريس يلتسين نفسه قد تعمد التضليل، أو أن مستشاريه ضللوه، ولكن ما حدث هو عقدة، ولن نقول “إحراجا”، لأن القرن العشرين، وفقا لقواعد الحساب والرياضيات، انتهى بعد عام بالتمام في 31 ديسمبر 2000، أي أن العام 2000 هو العام الأخير فيه، وليس العام الأول في الألفية الجديدة. لكن على ما يبدو أن أحدا لم يراجع رئيس الجمهورية في هذا الخطأ أثناء خطابه الأخير للشعب، ولكن.. هل كان ذلك ليغير قرار يلتسين؟ لا أعتقد.
ما الذي دفع يلتسين قبل 6 أشهر من نهاية ولايته للتخلي عن مقعده الرئاسي لفلاديمير بوتين، رئيس الوزراء البالغ من العمر آنذاك 47 عاما، الذي أصبح تلقائيا قائما بمهام رئيس روسيا؟
أوضح بوريس يلتسين وجهة نظره على النحو التالي: “يجب على روسيا أن تدخل الألفية الجديدة بسياسيين جدد، بأشخاص جدد، أذكياء، أقوياء، تملؤهم الحيوية…لم يتعين علي التمسك بالسلطة، عندما يكون هناك في البلاد رجل قوي، يستحق أن يكون رئيسا، تتعلق به آمال المستقبل لكل مواطن روسي؟ لم يجب علي أن أعطّله؟ لم الانتظار ستة أشهر أخرى؟ كلا، هذا ليس أنا، ولا يتماشى مع شخصيتي!”
لا شك في أن فلاديمير بوتين، كان سيفوز بالتأكيد في الانتخابات الرئاسية، حتى لو كانت جرت في شهر مارس، وليس في شهر يونيو، كما هو متوقع. فلن يكون للتأخير مدة 3 أشهر أي تأثير على الإطلاق، إلا إذا ما حدث أمر غير متوقع بالمرة…
لكن من الواضح أن يلتسين استسلم لسحر الأرقام، واستمع لمقترحات مساعديه الذين نصحوه بـ “طرق الحديد وهو ساخن”، بعدما تمكنت كتلة “ميدفيد” (الدب) المتكونة حديثا لدعم بوتين، من الحصول على المركز الثاني بجدارة في انتخابات مجلس الدوما في 19 ديسمبر 1999، حيث خسرت قليلا أمام الحزب الشيوعي الروسي القوي في ذلك الحين. وعلى أجنحة هذا النصر، رفع يلتسين خليفته إلى قمة السلطة، وبدت تلك الخطوة السياسية المعقدة مكسبا لجميع الأطراف، حيث لم يعد يلتسين يتمتع بشعبية، ولم يعد هناك معنى لتمسكه بمقعده.
لقد تأكد ذلك في مقابلة حديثة مع الرئيس السابق للإدارة الرئاسية وصهر يلتسين، فالنتين يوماشيف: “لقد أدرك بوريس يلتسين أنه في تلك اللحظة، عندما نجح بوتين في الانتخابات، أن الوقوف أمام صعود بوتين وتعطيله هو أمر غير ممكن، فغادر”.
ووفقا ليوماشيف، كان أربعة أشخاص فقط هم من يعرفون أن يلتسين سوف يبلغ الناس في 31 ديسمبر بمغادرته: يوماشيف نفسه، ورئيس الإدارة، ألكسندر فولوشين، ورئيس الحكومة، فلاديمير بوتين، وابنة الرئيس، تاتيانا دياتشينكو. وقبل مغادرته لتسجيل الخطاب المتلفز، أخبر يلتسين زوجته أيضا، بعدما همست في أذنه ابنته: “أبي، لا يمكن ألا تدع أمي تعرف”، فقال يلتسين باقتضاب: “ناينا، سوف أغادر المنصب”. وركب السيارة، مغادرا لتسجيل الخطاب المتلفز.
يتذكر يوماشيف: “كان يلتسين في العادة يسجل الخطاب قبل رأس السنة بيوم أو يومين، أما هذه المرة، فسجلنا الخطاب يوم 30 ديسمبر. وصل فريق التصوير من القناة الأولى، لتسجيل خطاب عادي. وفجأة وقف يلتسين في النهاية وقال: “لقد سجلت بشكل فظيع، سنعيد التسجيل يوم 31 ديسمبر” فأصاب فريق التصوير صدمة، حيث أن التسجيل يجب أن يبث في أقصى بقاع روسيا، كامتشاتكا. قررنا التصوير في الثامنة صباحا”.
وصل الجميع في تمام السابعة صباح اليوم التالي، دخل فريق العمل لتسجيل الخطاب، ثم أغلقنا عليهم الباب، حتى أخذت الشريط وذهبت به أنا وكوستيا إيرنست إلى محطة البث “أوستانكينو”. وبقيت المجموعة حتى الساعة الثانية عشرة في انتظار خروج التسجيل إلى البث المباشر. لابد أن أذكر هنا، أن مجموعة من فريق العمل بكوا عندما علموا بالاستقالة”.
أخبر فريق التصوير فيما بعد الصحفيين أن يلتسين نفسه انفجر بالبكاء. وأول من علم بمحتوى الخطاب كان عامل الإضاءة، الذي جلس في مقعد الرئيس ليضبط الإضاءة، وقرأ محتوى الورقة الموجودة على المكتب. ووفقا لما قاله المصور، أندريه ماكاروف، وجد المكتوب في هذه الورقة “سأغادر منصبي”. ثم دخلت ابنة يلتسين إلى مكان التصوير، وطلبت ألا تكون الإضاءة احتفالية للغاية قائلة: “تعلمون أن أبي سيغادر المنصب”.
أما يلتسين، فقد كان هادئا ووديا. صحيح أنه حينما بدأ قراءة الخطاب، ارتعش صوته، واعتقد المصور أن الرئيس على وشك البكاء، إلا أن التوتر العاطفي بلغ ذروته عندما بدأ بوريس يلتسين يطلب الصفح من الشعب: “أعتذر عن عدم تلبية آمال هؤلاء، ممن ظنوا أننا نستطيع الانتقال من الماضي الرمادي الراكد والشمولي إلى مستقبل مشرق وحضاري مزدهر بقفزة واحدة، كنت أنا شخصيا مؤمن بها.. لم تنجح القفزة، كنت ساذجا للغاية. في بعض الأحيان كانت المشكلات معقدة جدا، شققنا طريقنا من خلال الأخطاء والإخفاقات. تعرض الشعب للكثير من الصدمات خلال هذا الوقت العصيب”.
ووفقا لذكريات أحد المصورين، جلس يلتسين، بعد قراءة العبارة الأخيرة من الخطاب، بلا حراك لعدة دقائق، وكانت الدموع تنهمر على وجنتيه.
لكن الشعب الروسي لم يكن يميل إلى الحداد على استقالة أول رئيس روسي، فوفقا لمسح أجرته مؤسسة “الرأي العام”، أوائل عام 2000، صنف 67% من المواطنين دور يلتسين التاريخي بالسلبي، بينما صنفه بالإيجابي فقط 18%. لذلك فإن ما فعله بوريس يلتسين يوم 31 ديسمبر 1999، كان بالضبط الاستجابة لما ينتظره منه الشعب منذ فترة طويلة”.
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة