ثقافة القهوة وارتباطها بمشكلات العالم

تكتسب القهوة، قياساً إلى المشروبات الأخرى، وفرةً من المعاني تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات، وتصنّف كسلعة بناء على مصادر عدة في المرتبة الثانية عالمياً من حيث الاستهلاك بعد النفط، وقد أثارت جدلاً حول آثارها على الصحة والرفاهية والنظام الاجتماعي.

تُقدّم البروفيسورة كاثرين م. تاكر في كتابها “ثقافة القهوة” الصادر عن دار فواصل 2019، بترجمة وفيق كريشات، عرضاً عاماً للقهوة، بخلفيتها التاريخية ومعانيها والجوانب البراغماتية لإنتاجها ومعالجتها بوصفها سلعة تربط العالم، بدءاً من منتجي البنّ وقاطفيه في المزارع المدارية، إلى الوسطاء والمعالجين، إلى المستهلكين الذين يشربونها من دون أن يتعيّن عليهم التفكير في كيفية وصول المنتج إلى أكوابهم، وارتباطها بأحوال لا إنسانية من الرقّ والاستعباد إلى حروبٍ ونزاعات دولية للسيطرة على تجارتها. فلمَ القهوة؟ ولمَ هي غالباً موضع جدل؟

الجوهر الخفيّ للقهوة:

عبر الدراسة الأنثروبولجية، تقدّم تاكر أسئلة وافتراضات متبوعة باستنتاجات علمية، حول كيفية ارتباط البنّ واستهلاكه ببعض أكثر مشاكل العالم إلحاحاً، ودور الثقافة المحلية في إضفاء معانٍ للقهوة. فمحلات القهوة والأكشاك المنتشرة باتت ظاهرة عالمية، ناتجة عن عولمة ثقافة الاستهلاك، وازدياد ولع البشر الطويل الأمد بشربها، والذي بدأ في حدود القرن الخامس عشر، إلى أن صار البنّ من السلع العالمية الأولى التي يستعر التنافس على تجارتها بصورةِ نزاعات خفيّة.

أصبحت القهوة مع مرور الوقت واسمة للطبقات الاجتماعية والاقتصادية، وقد وضع أحد المفكرين نظرية ذهب فيها إلى وجود علاقة تطورية مشتركة بين نشوء المجتمعات البشرية، وانتشار النباتات التي تحوي كافيين، خاصّاً بتلك القهوة، بسبب شعبيتها التي لا تستمدها فقط من خواصها المنشطة بل من أبعاد اجتماعية وثقافية تضفيها بصورة تنسجم مع مختلف أساليب الطبخ المحلية، الأمر الذي جعلها تتسلل بخفة لتحتلّ الرفوف في المنازل قبل الأسواق والمقاهي والمحال التجارية.

بحلول القرن الثامن عشر، عُرفَت القهوة كأثمن مشروب في العالم، فهي لم ترمز فقط إلى الثروة والموضة، بل إلى امتياز الحصول على كلّ ما هو أجنبيّ، وبفضل التنافسات التجارية، انتشرت بين عامة الناس بعد أن كانت حكراً على أرفع الطبقات الاجتماعية، وانتقلت من ردهات الأغنياء إلى المنازل والمقاهي.

ففي بريطانيا، زوّد العمّال بالقهوة لكي يسهروا حفاظاً على ثبات مستوى الإنتاجية، فكانت القهوة مساعداً على الانضباط البدنيّ الناجح، وفي الوقت الذي اعتبر فيه الفنلنديون كأكثر شعوب العالم نهماً للقهوة، لم يخفَ على الدارسين في جامعة كاليفورنيا أثر المقاهي في توطيد الثورات، فتفضيلها كمشروب كان الأساس الذي جعل أميركا تتصدر تجارة البن. أما في فرنسا فقد اجتذب مقهى “بركوب” نجوم الأدب الكبار مثل فولتير وروسو حتى أن الصيحة الأولى للثورة انفجرت من مقهى “كافيه فوا”.

أما في مجتمعات الشرق الأوسط، فقد مثّل المقهى أمراً جديداً، حيث كان الشاي هو المشروب التقليدي السائد، إذ شكّل دخول القهوة إليه تغييراً اجتماعياً كبيراً، حيث كانت بدايةً محرمة على النساء وحكراً على الرجال الذين يرتادون المقاهي لتنتشر في فترات محددة وتضع أحوال البلاد والسلطة موضع النقاش، حتى شكّلت تحدياً للنواميس والأعراف، فصارت مكاناً لخلق أفكار جديدة تطلق للعمل السياسي، في حين كانت – القهوة –  في فترات تاريخية سابقة (الاحتلال العثماني) مشروباً محرّماً من قبل السلاطين والولاة كونه يشجع على التجمهر والتظاهر والاجتماعات غير المحببة من قبل الباب العالي.

تاريخ العذاب المخبوء في فنجان:

رغم أنّ زراعة البنّ تمثّل الحياة لزارعيه، سيما في المناطق المدارية، كالبرازيل وكولومبيا وغربي هندوراس، وحتى انتقاله إلى شبه جزيرة العرب قبل أن تحاربه زراعة القات في اليمن، وبعد أن توطدت أماكن زراعته وانتشرت عالمياً، اصبحت القهوة مع مرور الزمن مشروباً مكروهاً لسلوك منتجيها الاستبدادي والممارسات الاستعبادية المتعلقة بتجارها.

فالعاملون في زراعة البنّ أشقياء، ذوو تحصيل علمي محدود، ولا يملكون خيارات كثيرة للعمل، إضافة إلى استنزاف مزارع البن للتربة وما تخلفه من شقاء على حياة سكان الأرياف التعساء، الأمر الذي يودي إلى خراب هائل يتخفى خلف كمّ كبير من الرفاهية البشرية المبنية على أرضٍ تصير بوراً وخلف عمال تعساء مصيرهم الهجرة، حيث تتركهم زراعة البن نهاية بلا أرض واقتصادات فردية راكدة.

المشروب العالميّ الأول:

تشير البروفيسورة تاكر إلى أن ابن سينا هو أول من أعطى وصفاً مكتوباً لآثار البنّ وقدرته على تقوية أعضاء الجسد، إلا أنه عبر الزمن، لم يعد مجرد مشروب بل مرّ بسلسلة عمليات معولمة شكّلته بصورة رابط معقد أنشأ تحالفات أثرت على القيم والمعاني، فالاستمتاع بكوب قهوة مخمّر ليس سوى نتيجة لترابط أجزاء العالم البعيدة مع أناس نشاطرهم مع كل رشفة، المطر والشمس والتربة والعَرق والكدح الذي جلب القهوة إلى موائدنا، الأمر الذي يحملنا للوقوف باحترام أمام عمل نافس السلع العالمية واحتفظ بموقع الصدارة في سوق عالمية تنافسية عالية.

*غنوة فضة روائية سورية.المصدر : الميادين نت