“العثمانية الجديدة” تشق الطريق إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط

"العثمانية الجديدة" تشق الطريق إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط

تحت العنوان أعلاه كتب إيليا بولونسكي في “فوينوي أوبوزريني” حول السياسة التركية حيال الأزمة الليبية، والتداعيات التي يمكن أن يسببها التدخل العسكري في ليبيا.

وجاء في المقال:

“لطالما اتبعت تركيا سياسة مستقلة في المنطقة، يطلق عليها المحللون السياسيون “العثمانية الجديدة”، وفي إطار هذه السياسة، تدعي أنقرة أنها القوة الإقليمية العظمى الجديدة في المنطقة. ولكن ما هي العواقب التي يمكن أن تؤدي إليها مثل هذه الطموحات التركية؟

التدهور التدريجي للعلاقات مع الولايات المتحدة

من أولى الدلائل على الخطة الجديدة الطموحة لتركيا تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعد تركيا الحديثة نفسها حليفا جيوسياسيا مخلصا للولايات المتحدة الأمريكية، ولا ترغب في أن تدور في فلك النفوذ الإقليمي للولايات المتحدة، وتلعب دور الشرطي الصغير في المنطقة، لذلك مضى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قدما في صفقته لشراء منظومات “إس 400” الروسية للدفاع الجوي، واصطدم علنا برغبة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.

وحينما هددت القيادة الأمريكية الأتراك بالعقوبات، رد الأخيرون بإثارة قضية بقاء القواعد العسكرية الأمريكية على الأراضي التركية،  التي تمثل أهمية استراتيجية كبيرة، لكونها تسمح للولايات المتحدة الأمريكية بالتحكم بمناطق الشرق الأوسط ومنطقة البلقان والبحر الأسود والقوقاز من خلال وجود سلاح الجو الأمريكي هناك. ليهدد بذلك الرئيس التركي “اليميني المتطرف” بالقيام بما كان اليسار التركي يحلم به منذ عقود، ودفع من أجله الدماء، ذلك أنه يدرك أن انسحاب القواعد الأمريكية من البلاد لن يمنحه نقاطا سياسية فحسب، وإنما سيجعله أبا حقيقيا للأمة التركية، ومنقذا للبلاد من الوجود العسكري الأجنبي.

بالإضافة لذلك يعتقد أردوغان جديا أن أنقرة، وليس موسكو أو واشنطن، هي من يجب أن يلعب الدور الرئيسي بقضايا السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، بما أن هذه البلدان كانت ذات يوم جزءا من الإمبراطورية العثمانية. في الواقع، إن جميع بلدان الربيع العربي عام 2011 هي دول عثمانية سابقا: مصر، تونس، ليبيا، سوريا، اليمن. وتركيا تعتبر نفسها صاحبة الحق في المشاركة في سياساتها، على الأقل بذات القدر الذي تشارك به بريطانيا العظمى في سياسات دول الكومونولث، أو فرنسا في سياسات مستعمراتها السابقة.

بالطبع قد يجد الأمريكيون مكانا آخر لقواعدهم، على سبيل المثال، في اليونان أو قبرص، ولكن ذلك سيتطلب استثمارات نقدية، والأهم من ذلك، عنصر الوقت. إلا أن البنتاغون مستعد لمثل هذا السيناريو، حيث أنهم يعتبرون سياسات تركيا صعبة التكهن.

الدليل التالي على تنشيط الدور التركي هو العملية العسكرية في سوريا، وقد كتب كثيرون حول هذه القضية، ولا داعي لتكراره، سوى الإشارة إلى الصدام الرئيسي بين المصالح التركية والأمريكية على الأراضي السورية، بعد مهاجمة الأكراد السوريين، وهو الموقف الذي تصرف فيه الأتراك، تحديدا، من أجل إحياء حقهم في السيطرة على الأراضي العثمانية السابقة.

المناورة التركية في ليبيا

بدأت تركيا في السنوات الأخيرة لعب دور كبير في الصراع العسكري السياسي في ليبيا. دعونا نتذكر أن ليبيا كانت من بين آخر الدول في الإمبراطورية العثمانية، حيث فقدتها تركيا قبل الحرب العالمية الأولى، بعد أن خسرت الحرب مع إيطاليا.

الآن تعلن تركيا عن مصالح سياسية واقتصادية في ليبيا، وبالتالي فإن النفط والغاز الليبيين يهمان الجانب التركي بما لا يقل، وربما يزيد عن أهمية السيطرة التركية على الشمال السوري، فنحن هنا نتحدث عن أموال هائلة. وتدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني، بينما يعتبر قائد الجيش الوطني الليبي المشير، خليفة حفتر، أهم معارض للنفوذ التركي في المنطقة. وفي 9 ديسمبر الجاري، صرح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأن توقيع اتفاقية التعاون العسكري الموقعة في 27 نوفمبر مع حكومة الوفاق الوطني تمنح أنقرة الحق في نشر القوات المسلحة التركية في ليبيا، بناء على طلب الشعب الليبي.

يعني ذلك واقعيا أن أردوغان يظهر استعداده لتكرار السيناريو نفسه الذي مرت به روسيا في سوريا، بناء على طلب الحكومة الشرعية في سوريا. وبعد اجتماع في اسطنبول بين ممثلي القيادات التركية برئاسة أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، بدأت القوات المسلحة التركية في تدريب القوات في ليبيا. بل إن هناك دلائل على أن الأوامر التي تلقتها قيادة القوات الجوية والبحرية التركية هي للبدء في العمل على النشر السريع للطائرات والمروحيات والسفن. قد تكون بغرض استعراض القوة والعضلات، أو أنها تحضير لعملية عسكرية واسعة النطاق للقوات المسلحة التركية خارج البلاد.

بالطبع، لا يوجد ما يؤكد قطعيا أن تركيا سوف تتدخل بشكل مباشر لمواجهة حفتر في ليبيا، إلا أن هذه العملية كذلك واردة الحدوث، خاصة إذا كان الهدف منها هو إرباك المشير ومؤيديه وإفشال خططهم. بالتالي قد تكون ليبيا في المستقبل القريب مسرحا لعمليات مسلحة جديدة، لا تشارك فيها المجموعات العسكرية والسياسية الليبية فحسب، بل قد تنضم للحرب قوات مسلحة من دول أخرى.

إن الوضع الراهن يزعج لاعبين رئيسيين آخرين في الشرق الأوسط بطبيعة الحال، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى روسيا، حيث دعا وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، موسكو للتأثير على المشير خليفة حفتر، ونصحه بوقف خطته للهجوم على طرابلس، لأن هذا الهجوم يمكن أن يؤدي إلى عملية عسكرية تركية.

الانقسام بين روسيا وتركيا حول ليبيا

ترسم تصرفات أردوغان لدعم حكومة الوفاق الوطني خط انقسام جديد في المصالح الروسية التركية، وإذا لم تكن روسيا تؤيد المشير حفتر علنا، فإنها على الأقل تعتبره فاعلا مؤثرا في العملية السياسية، حيث يتم استقباله على أعلى المستويات في موسكو. أما أردوغان، فبعد أن هاجم تصرفات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر، توجه لمهاجمة المنظمة الروسية “مجموعة فاغنر” ووصف مقاتليها بـ”المرتزقة الروس”، ووعدهم بعدم السماح لهم بالتصرف في ليبيا. كان تصريح أردوغان قاسيا للغاية حينما تحدث عن الروس في ليبيا، رغم أنه كان بإمكانه غض الطرف عن هذه القضية على خلفية التعاون مع روسيا في سوريا.

ووفقا للرئيس التركي، فإن “المرتزقة” الروس يعملون في ليبيا لصالح قائد الجيش الوطني الليبي المشير، خليفة حفتر. وكانت “بلومبرغ” قد نشرت في وقت سابق، نقلا عن مصادرها الخاصة، وصول هذه المجموعة إلى ليبيا في سبتمبر. وفي نوفمبر نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” أيضا أخبارا حول وصول المئات من مجموعة فاغنر إلى ليبيا.

في المقابل تنشر معلومات حول رحلات لطائرات أوكرانية من تركيا إلى ليبيا، تنقل أسلحة ومعدات عسكرية لمقاتلي السراج، ومن الوارد أيضا إرسال مدربين عسكريين ومتخصصين إلى جانب الأسلحة والمعدات العسكرية للمساعدة في تدريب مقاتلي تشكيلات القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني. ففي الواقع لا ترقى مهاراتهم التقنية إلى المستوى المطلوب وينبغي تحسينها، وهو ما يتطلب خبرات تركية أو حتى أمريكية.

كذلك نشرت بوابة “المرصد” صورا لمركبات مدرعة تركية مدمرة كدليل على توريد الأسلحة والمعدات العسكرية التركية لمسرح الأحداث الليبية، ومع ذلك لا يشك أحد في قيام الجانب التركي بتزويد القوات التي تقاتل إلى جانب حكومة الوفاق الوطني بالسلاح.

بالتالي، فإن الموقف السلبي من هذه القضية قد يسهم في برودة العلاقات التركية الروسية، بعد ما شهدته مؤخرا من تحسن، فاحتمال تدخل القوات التركية في ليبيا يثير قلقا بالغا لدى موسكو، لكونه قد يؤثر على توريد السلاح الروسي إلى تركيا، وهو ما سيؤثر كذلك على مصالح المجمع الصناعي العسكري الروسي.

فما هي احتمالات تطور الصراع بمشاركة تركيا؟

يرى المبعوث الأمريكي الخاص لليبيا، جوناثان فاينر، أن جيش حفتر لن يتمكن وحده من الاستيلاء على طرابلس، لذلك سوف يكون الثمن باهظا على الليبيين. في الوقت نفسه، فإن فاينر يرى أنه من غير المقبول مشاركة أي قوات ثالثة في العمليات العسكرية الليبية، والمعلومات المتناثرة حول مشاركة “المرتزقة” الروس في الأعمال العدائية يمكن أن يسبب سخطا إضافيا في الغرب، وهو ما سيصبح ورقة في يد حكومة الوفاق الوطني، لتطالب من خلالها بدعم تركيا والغرب.

وإذا كانت “مرتزقة فاغنر” تقاتل إلى جانب حفتر، كما تقول وسائل الإعلام الغربية، فإنهم سوف يدخلون عمليا في مواجهة مع القوات التركية، وردا على ذلك سوف يقتل الأتراك مقاتلي “فاغنر”، وهو ما قد ينتج وضعا أسوأ من الوضع في سوريا.

إن الصراع العسكري السياسي في ليبيا يفتح صفحة جديدة من طموحات تركيا السياسية الحديثة، ولابد من أخذ “العثمانية الجديدة” في الاعتبار، وإدراك أن تركيا الآن ليست مهتمة بالأكراد على الحدود السورية أو العراقية فحسب، وإنما يهمها أيضا الوضع في ليبيا واليمن والسودان وغيرها من بلدان المنطقة. ولا يمكن القول بأن تركيا تتحول بذلك إلى قوة عظمى عالمية، ولكنها بالفعل قد أصبحت قوة إقليمية، ويتعين على الجميع الآن وضع ذلك في الحسبان، بما في ذلك روسيا”.

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة