انعطافات استراتيجية أطاحت رأس المُراهنات

أن يصحو البعض متأخّراً ويُعيد قراءة الواقع ويبتعد عن المراهنات على الأميركي هذا جيّد في الصحوة، كذلك الإنتباه إلى أن الجيش العربي السوري لن يتوانى عن إستعادة كل ذرّة من أراضي الجمهورية العربية السورية.

ما الذي يحصل في الإدارة الأميركية؟

الخطوات الدراماتيكية التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قواته من الشمال السوري جعلت المشهد السياسي في حال ترقّب ودفعت إلى قراءات مُتضارِبة أو لنقل محاولة لسَبْر أعماق طبيعة هذه الخطوة، هل هي استراتيجية في مفاعيلها أم أنها إعادة تموضع وفق ما يدفع إليه البنتاغون الأميركي والاستخبارات في الدولة العميقة؟!

كثير من المُحلّلين والمُتابعين للشأن الأميركي وبعض مراكز الدراسات الإستراتيجية تناولوا الحَدَث بالتبدّل الكبير الذي شابه الإضطراب السياسي مع بداية عهد الرئيس الأميركي.

وركّزت القراءات على العامِل الداخلي الأميركي في العودة إلى الاهتمام بالواقع الإنتخابي القادم ومتطلّبات الناخِب الأميركي الذي يلتفت بالدرجة الأولى إلى الإقتصاد وتجاوز البطالة واليد العاملة في توفير فُرَص كما وعد “سيّد” البيت الأبيض. ومع كل هذه العوامل التي يمكن أن تكون هامة في قياس تأثيرها، لكن ما يمكن ملاحظته بقوّة أن الإدارة الأميركية ما كانت أن تتّخذ خطوة هامة بهذه السرعة التي أُجّلت لمدة عام منذ أن أعلن الرئيس الأميركي في 2018 عن سحب جنوده الذين يصل عددهم إلى 2000، إلا لتبدّل استراتيجي في الموازين لا تستطيع واشنطن مُجاراته في واقع ميداني ساخِن.

لم يكن الاتصال من قِبَل الرئيس التركي إردوغان بالرئيس دونالد ترامب إلا تطبيقاً لوعد المنطقة الآمِنة التي حاول الأخير التنصّل منها حفاظاً على “قسد” التي أمّنت مصالحه وبادلها بدعم لوجستي وسياسي كبيرين.

ومع بداية الإعلان عن سحب الجنود الأميركيين من الشريط الحدودي مع الجمهورية العربية السورية كان الجيش التركي مع المليشيات التي دمجها تحت مُسمّى “الجيش الوطني” يفتحون النار على رأس العين وتل أبيض والقرى المحيطة لتحقيق إنجاز يراه إردوغان بـ”التاريخي” لقضم المزيد من الأرض السورية.

الاستدارة التي ذهبت إليها “قسد” وتسليم القرى والمدن للجيش العربي السوري التي لم تخسرها في الغزو وبضمانة روسية قلبت الطاولة على رأس النظام التركي الذي وجد أن حساباته اصطدمت بواقع مُغاير لما تمنّاه. ورغم دخول الجيش السوري إلى منبج وعين عيسى وعين العرب وقرى في ريف الحسكة ومطار الطبقة والرقة ومناطق أخرى كثيرة إلا أن النظام التركي يعتبر أن  الإتفاق يشجعّ “الإرهاب” ويعتبره “إخلالاً” بالاتفاقيات الموقّعة مع روسيا وإيران.

الغزو التركي للأراضي السورية تحت ذرائع اجتثاث “قسد” لم يلق أيّ تأييد من الدول الأوروبية وبعض النظام الرسمي العربي، وبطبيعة الحال ليس احتفاء بالانتصار السوري وإنما لتضارُب الأجندات التي جعلت من كل الذين أيّدوا ودعموا الحرب على سوريا في حال فقدان للتوازن مع بدء العدوان على الأراضي السورية.

فهم من ناحية كانوا قد فتحوا بوابات عواصمهم لمخطّطات تقسيم الدولة السورية ودعم الارهاب. ومن ناحيةٍ أخرى قرأوا التبدّلات الاستراتيجية التي حصلت في التحالفات في محاربة الإرهاب والانتصار عليه. وكذلك على مستوى الاستعداد والخطوات للجنة الدستورية التي وافقت عليها سوريا وفق ضمان وحدة الأرض السورية وسيادتها بعيداً عن أجندات وتدخّلات خارجية.

النظام التركي وجد نفسه وحيداً على المستوى السياسي ولم ينفكّ عقده مع واشنطن. والقراءات التي تذهب في اتجاه مُغاير أراها تُجافي المنطق السياسي بغضّ النظر عن التصريحات الإستعراضية للرئيس الأميركي لمُعاقبة تركيا في حال واصلت عدونها. وهو هنا يتحدّث عن حلفاء الأمس “قسد” ولا يتحدّث عن الأرض السورية وما خلّفته الإدارة الأميركية من دمار هائل في البنى التحتية بالشراكة مع تركيا وكل دول العدوان.

تصريحات الرئيس الأميركي يبدو أنها محاولة فاشلة لاستعادة الدور سياسياً بعد أن وجدت واشنطن نفسها غير قادرة على حسم الموقف لصالح حلفائها في معادلات بينت أن الجيش العربي السوري والحلفاء قد غيّروا كل الخرائط الأميركية وهشّموها.

ويظهر هنا الدور الإستراتيجي لروسيا في تعاملها مع واشنطن بذكاء وحِنكة سياسيين جعلت الأميركي يدرك كم أصبحت المنطقة خارج إرادته. وهذا يدركه النظام التركي الذي يُسابق الوقت لتثبيت نقاط يعتبرها هامة لتكون في اعتبارها بدائل سياسية في أيّ بحث مقبل على طاولة المفاوضات. وغدت المنطقة الآمِنة مُجرّد حلم يُعشّش في رأس إردوغان وهو ما يدفع إليه ويرسم الخرائط عن منطقة “آمِنة” في عُمق 40 كيلومترا قد تكون بداية “لمشوار” قَضْمي للأرض.

لكن ما يدفع النظام التركي اليوم إلى الاستيقاظ من النشوة هو مشهد دخول الجيش العربي السوري إلى البلدات والقرى في احتفاء كبير من الشعب السوري بكل مكوّناته ـوسقوط الرهان على الأميركي الذي يحمل حقائبه من دون أن يلغي ذلك تعزيز قواعده في الخليج والعراق، ما يدفع إلى التنبّه من أن السياسة التحالفية الأميركية- التركية قد تعمل على وضع سيناريوهات جديدة تحت الطاولة ترتبط باستعادة التوازن والتفكير من خارج الصندوق تأخذ بآليات يمكن أن يستخدمها الطرفان لتبقى تركيا في موقع يؤهّلها إلى فرض شروط سياسية، وهي القاعدة الأكبر لـ”حلف الناتو” والبوابة الشرقية للأطماع تجاه منطقتنا.

الموازين على الأرض تغيّرت والرهان التركي على أن تذهب العصابات الإرهابية التي حشدها للوصول حتى حقل “العمر” النفطي و”كونيكو” الغازي  سقطت، وهذا ما تعرفه القيادة التركية التي ما برحت عقلية الإقتطاع من الأرض السورية تسيطر عليها.

خرائط التحالفات بينّة ولا تدخل في نظرية التغاضي أو التشجيع لتركيا بغزوها وهذا لا يستقيم أصلاً مع الرؤيا الروسية.

وقد صرّح السيّد لافرنتين مبعوث الرئيس الروسي إلى المنطقة أن العدوان مُدان ولا إتفاقات مع تركيا.

الإنسحاب الأميركي وبداياته الفعلية بدأت ـ وهذا يؤشّر إلى مدى التخبّط في ما تصرّح به الرئاسة التي ترى أنها قد تعيد قواتها في حال تمادت تركيا ولم تلتزم الإتفاق حول عملية محدودة.

“عملية محدودة” تعني أنه قد تم ّالإتفاق مع واشنطن وهنا يقرأ أن روسيا الإتحادية والجمهورية الإسلامية في إيران مع الجمهورية العربية السورية من الطبيعي أن تكون في مواجهة المخططات الأميركية للتقسيم.

السهام التي تُطلَق على النظام التركي حليف الحرب على سوريا جعلت كيان الاغتصاب يرفع من صوته في ظلّ التبدّلات الإستراتيجية التي تجسّدت مع الإنسحاب الأميركي، مع أن الكيان أقرب الأصدقاء لتركيا والتعاون العسكري في أعلى مستوياته بغضّ النظر عن التصريحات الإستعراضية للأخيرة في مجلس الأمن حول قضية فلسطين.

وهذا يدخل في “المُراهنات” التي أسّس لها كيان الاحتلال في “تقسيم” الأرض السورية وإقامة علاقات مع كيانات انفصالية، وبالتالي يصبح شريكاً في نظام جديد يحقّق له نفوذه في المنطقة وهو الساعي إلى تحقيق ذلك من البوابة الأميركية التي تعبّد له الطرقات.

سقط مشروع إسقاط الدولة السورية وجيشها الذي يستعيد اليوم القرى والمدن التي خرجت عن سيطرة الدولة لست سنوات في الشمال والشمال الشرقي ولم يقطع التواصل مع أبناء سوريا في دعم صمودهم في مواجهة كل محاولات تقسيم الجغرافيا والكيانات الإنفصالية التي  تدعمها وتشجّعها واشنطن.

أن يصحو البعض متأخّراً ويُعيد قراءة الواقع ويبتعد عن المراهنات على الأميركي هذا جيّد في الصحوة، كذلك الإنتباه إلى أن الجيش العربي السوري لن يتوانى عن إستعادة كل ذرّة من أراضي الجمهورية العربية السورية.

ويكفي أن نقرأ في افتتاحيات الصحف الصهيونية القلق من الإنتصارات التي يحقّقها الجيش العربي السوري والحلفاء، وكذلك الموقف الإيراني والروسي في مبدئيتهما، لندرك مدى الرُعب الذي دبّ في المؤسّسة العسكرية الصهيونية واستعراض الكتّاب والمُحلّلين العسكريين الذين يصف بعضهم ما حصل بالخنجر في الظهر الصهيوني. ومنهم مَن بشَّر إلى أن القادم سيكون صعباً ومقلقاً لكيان الاحتلال الذي يجب أن يفتّش عن عوامل قوّة جديدة تجعله قادراً على مواجهة أية تطوّرات مستقبلة، وخاصة أن رِهانه على أن تكسر الجمهورية العربية السورية سقط. وهي الآن في أوج انتصاراتها، وفي محور مقاوِم يجعل الاحتلال يبني نظريات أمنية لمواجهة تطوّرات يراها حتميّة.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

بسام رجا

كاتب وإعلامي فلسطيني