أحداث المنطقة في الآونة الأخيرة تدحرجت بوتيرة متسارعة نحو التصادم العسكري بين إيران والولايات المتحدة الأميركية جراء تصاعد حدة العقوبات الأميركية الأحادية الجانب والجائرة على إيران صاحبتها تهديدات جدية بتصفير صادرات إيران النفطية بهدف خنق اقتصادها وتغيير سلوكها والحد من نفوذها في المنطقة الأمر الذي نتج عنه تفجيرات متفرقة في مياه الخليج بقيت مجهولة الهوية أعقبها ذروة التوتر بعد لجوء إيران إلى إسقاط طائرة التجسس الأميركية واحتجاز ناقلات النفط المتبادل بين بريطانيا وإيران.
تلك الأحداث غيبت منطق الدبلوماسية وادخل المنطقة في حال من التهيب من انفجار وشيك جراء التوتر الحاصل وخصوصاً بعد الاستنفار والتحشيد العسكري المتبادل بين الأطراف المتصارعة في مياه الخليج الأمر الذي وصف بفوهة بركان حبست الأنفاس وترقب الجميع لحظة قذف الحمم البركانية التي لو حصلت لغيرت ملامح المنطقة السياسية والجغرافية والعسكرية.
لكن بعد مرور شهر على التوتر الحاصل واحتمالات انفجار البركان يبدو أن شيئاً ما قد تغير في الأفق يعزز منطق التهدئة والعودة إلى لغة المبادرات والدبلوماسية فوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أعلن انكسار العنجهية الأميركية بعد طلب النجدة من الحلفاء حين قال: طلبنا من البريطانيين والفرنسيين والألمان والنرويجيين واليابانيين والكوريين الجنوبيين والأستراليين الانضمام إلى تحالف دولي لـحماية الملاحة في مضيق هرمز وباب المندب.
لكن الأجوبة التي حصلت عليها واشنطن من كل الدول المذكورة كانت تتمحور حول استحالة تأمين الملاحة في مياه الخليج من دون مشاركة أمنية إيرانية فاعلة أو التوصل إلى تفاهم مع إيران يضمن أمن المياه الإستراتيجية في الخليج وذلك بحكم الجغرافيا الإيرانية وبحكم الإصرار الإيراني للذهاب إلى أبعد مدى سياسياً وعسكرياً في الدفاع عن الكرامة الإيرانية لذلك فإن تلك الدول فضلت عدم الانجرار إلى معركة خاسرة سلف، في المكان والزمان.
الملاحظ: بأن واشنطن لم تطلب من أي دولة خليجية تتشاطأ مياه الخليج أو مطلة على ممر مضيق هرمز وباب المندب الانضمام للتحالف الدولي وكأن دول الخليج تتشاطأ المحيط الهندي أو إنها مطلة على المحيط الأطلسي، بومبيو نفسه أدرك إخفاق الاستجابة لطلب النجدة الأميركية فلجأ إلى الإعلان عن استعداده للذهاب إلى إيران للتفاوض أو لمخاطبة الشعب الإيراني لكن الباب الإيراني بقي موصداً بوجه أميركا ما لم تلغ العقوبات الأميركية ثم ضمان العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي الإيراني، وزير خارجية عُمان يوسف بن علوي، الدبلوماسي العُماني العتيق، حط في طهران للقاء المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم رئيس الدبلوماسية الإيرانية المبتسم محمد جواد ظريف والمعروف بأن بن علوي لا يتحرك إلا وفي جعبته رسائل مهمة من أطراف الصراع بتكليف أميركي بريطاني يمهد للبدء بمبادرة عُمانية من شأنها إزالة التوتر في المنطقة والعودة إلى منطق الدبلوماسية وان بقيت ضمن القنوات الخلفية.
تأتي زيارة بن علوي بعد زيارة رئيس الوزراء الياباني تشنزو ابيي، حاملاً رسالة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفض استلامها قائد الثورة الإيراني علي خامنئي ثم أعقبها بتصريح لافت حين وصف التفاوض مع أميركا بالسم الزعاف الأمر الذي شكل صدمة نووية إيرانية لأميركا وأعوانها في أوروبا والمنطقة وللتخفيف من الصدمة النووية الإيرانية تجاه أميركا وأعوانها لجأ ترامب للتلطي بالإنسانية الأميركية حين وجه الشكر لإيران لتجنبها إسقاط طائرة تجسس أميركية كان على متنها 40 ضابطاً متخصصاً في مجال التجسس.
ما ظهر حتى الآن طلب أميركي بريطاني، بالنجدة للنزول من أعلى الشجرة ارتباك أوروبي ملحوظ، تخبط العدو الإسرائيلي بعد التأكد من استقباله أولى صليات الصواريخ الإيرانية في قلب تل أبيب ودخول محور المقاومة المعركة بقيادة سورية في حال تعرضت إيران لأي اعتداء عسكري أميركي أما أنظمة الخليج فقد أصابها الهلع تمثل بانسحاب الإمارات الصامت من حرب اليمن، خوفاً من استقبال صواريخ الحوثيين على أراضيها أما السعودي فقد ترك وحيداً يواجه المصير المجهول في اليمن يبحث عن مخرج لائق يحفظ ماء الوجه من خلال القبول بالمبادرة الأممية الروسية المشتركة الهادفة لإنهاء حرب اليمن مقابل تسيّد إيران للمشهدين السياسي والعسكري وبأنها صاحبة اليد الطولى في منطقة الخليج بحكم الجغرافيا السياسية وبحكم صمود إيران دفاعاً عن الكرامة والحقوق الإيرانية.
أمام هذا الواقع كان لا بد من دخول طرف حائز ثقة المجتمع الدولي على خط الوساطة لنزع فتيل التوتر العالي وعودة منطق الدبلوماسية من باب أممي هنا تقدمت روسيا بمبادرة جديدة غلب عليها صوت العقل وأعاد تفعيل منطق الدبلوماسية أفضى إلى تهدئة التوتر السياسي وتنفيس الاحتقان العسكري أسهم في إخماد فوهة البركان الذي ساد مؤخراً منطقة الخليج من خلال التركيز على حلولٍ سلمية وجماعية مستندة إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وهي بذلك، تقدم نموذجاً مطلوباً لحل القضايا المرتبطة بأمن الخليج والمنطقة، مختلف عن النموذج الأميركي القائم على الحماية الأجنبية التي تبتز دولاً خليجية في أمنها بهدف الحفاظ على وجود أساطيلها العسكرية في المنطقة، وتدفق إمدادات النفط إليها، وإمكانية مضايقة ومنع دول أخرى من الحفاظ على مصالحها وحماية أمنها الخاص.
المبادرة الروسية التي تقوم على مبادئ أساسية لتحقيق هدفٍ محدد بعيد المدى وهو إنشاء منظمة للأمن والتعاون في الخليج، تشارك فيها كل دول الخليج، إضافة إلى كلٍ من روسيا والصين والهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى بصفة مراقبين أو أعضاء منتسبين. وذلك لمعالجة قضايا المنطقة من خلال التعاون بدلاً من الصراع، ولتثبيت الاستقرار السياسي والأمني في كل دول المنطقة، ولوضع أسس لسياسات جماعية تقضي على الإرهاب في المنطقة، أهمية المبادرة الروسية أنها تأتي في لحظة ترهل سياسي يشمل دول المنطقة العربية وفي لحظة دخول أميركا في غيبوبة مع بدء حملة الانتخابات الرئاسية فيها وأيضاً في لحظة الهلع التي تصيب العدو الإسرائيلي ومواجهة حمى انتخابات مبكرة للكنيست أما أوروبا المتمسكة بالاتفاق النووي الإيراني فقد اعتبرت المبادرة الروسية بمثابة سلم النجاة الذي يؤمن الهبوط الآمن من أعلى الشجرة بشكل يضمن مصالح الجميع عملاً بمبدأ رابح رابح.
يبقى أن نشير إلى أن المنطقة دخلت مرحلة التهدئة مع انخفاض منسوب التوتر وليونة مبدئية في المواقف تتيح الفرصة لقراءة متأنية تسمح بإعادة النظر بالمواقف والحملات السياسية والعسكرية تمهيداً للشروع بمعالجة هادئة تماشياً مع التطورات الحاصلة في المنطقة أخذة بالاعتبار تعاظم القدرات العسكرية لمحور المقاومة وذلك تفادياً لحصول حرب مدمرة ستضع الجميع في خانة الخاسر.
الوطن السورية