لا توفر «جبهة النصرة» فرصةً للحصول على مزيد من الأموال. «الأمن الاقتصادي» أولوية أساسية في مفاهيم الجماعة المتطرفة، وهو في طبيعة الحال يعني الحفاظ على ملاءتها، وتحصين أرصدتها، من دون أن يُشكل فارقاً الحال الاقتصادي لسكان المناطق الخاضعة لسيطرتها. هكذا، تحوّلت المعارك الأخيرة إلى مناسبة لجمع «تبرعات» إضافية، وبمختلف السبل المتاحة، بدءاً بجمعها على أبواب المساجد، وانتهاءً باستقبالها في شكل عملة افتراضية.
لم يكن مُستغرباً أن تحوّل «هيئة تحرير الشام» المعارك المستعرة حول «جيب إدلب» إلى مناسبة لجمع «التبرعات». يُعرف عن «جبهة النصرة» (نواة «تحرير الشام» الفعلية) حرصها الشديد على تحصين «أمنها المالي»، وجباية الأموال من أي مصدر متاح منذ سنوات طويلة، وفي شكل خاص منذ أن خسرت حقول النفط في الشرق السوري لمصلحة نظيرها المتطرف، تنظيم «داعش». وانسجاماً مع هذه «القاعدة»، وجد المصلّون في مساجد إدلب أنفسَهم، يوم الجمعة الماضي، على موعد مع تفنّن الخطباء في إلهاب حماستهم لدفع مزيد من التبرعات. جاء سلوك الخطباء التزاماً بتعميم صادر عن «وزارة الأوقاف» في «حكومة الإنقاذ» (الذراع المدنية لـ«تحرير الشام»).
حَمَل التعميم المذكور الرقم «61/ ص» بتاريخ 8 أيار، واحتوى توجيهاً لـ«الخطباء والأئمة» بضرورة «حثّ المسلمين على التبرع بأموالهم والبذل من صدقاتهم للتدشيم والتحصين». استُنسخ التعميم عن آخر يحمل الرقم «29/ ص»، ويعود تاريخه إلى 1 آذار الماضي (قبل شهر وأسبوع)، كان موجّهاً إلى «مديري الأوقاف»، ويطالبهم أيضاً بـ«جمع التبرعات والصدقات لأعمال التدشيم والتحصين». رغم ذلك، يواصل عدد من قادة «الهيئة» تحميل «أهالي القرى والبلدات» مسؤولية سقوط عدد من النقاط الاستراتيجية، مثل قلعة المضيق، لأنهم «رفضوا السماح للهيئة بالتدشيم والتحصين».
المعارك لخدمة «الاقتصاد»
مع حلول شهر نيسان الماضي، كانت «تحرير الشام» قد أفلحت في تجاوز أزمة مالية خانقة هيمنت عليها شهوراً طويلة. بلغت الأزمة أوجها منتصف العام الماضي مع انحسار كثير من مصادر التمويل التي غذّت «النصرة» سنوات طويلة، من انخفاض «الموارد الخارجية» في ضوء «الأزمة الخليجية»، وما أفرزته من عراقيل في وجه «الأريحية القطرية» لتمويل التنظيم المتطرف، إلى فقدان كثير من «الموارد المحلية» من ريوع المعابر، أو إيرادات الإتاوات، أو «غنائم المعارك». لم تكن تلك الأزمة سوى جزء من ملامح مرحلة انحسر فيها الغطاء الإقليمي عن «النصرة»، إلى حدّ بدت معه أشبه بـ«ورقة محروقة»، ينبغي استنزافها تمهيداً لقطافها (راجع «الأخبار» 22 شباط 2018).
حثّت «حكومة الإنقاذ» الناس على التبرّع لتمويل أعمال التدشيم والتحصين
بحلول شهر آب 2018، كانت «قيادات النصرة» قد حسمت أمرها، لجهة وجوب تغيير الواقع الميداني، وإعادة رسم خريطة السيطرة في إدلب ومحيطها، سعياً إلى تحقيق جملة أهداف، على رأسها تعويض النقص الهائل في الموارد المالية (راجع «الأخبار» 6 آب 2018). ظلّت الخطط حبراً على الورق في انتظار الظرف المناسب، لا سيما أن قلب الأوضاع الميدانية يستلزم في حدّ ذاته اعتمادات مالية كبيرة. لم يَطُل الانتظار، وسرعان ما أسهمت التطورات الإقليمية في تهيئة الأجواء، وتَكَفّل المال القطري بتوفير الاعتمادات اللازمة (راجع «الأخبار» 8 كانون الثاني 2019). لم تضيّع «النصرة» الوقت، وباشرت سريعاً تنفيذ خططها تمهيداً لتطبيق جملة إجراءات تضمن تعزيز مواردها المالية المحلية. كانت الموارد قبل تلك الفورة تكاد تنحصر في نصيب «تحرير الشام» من واردات معبر «باب الهوى» الحدودي. ورغم أن ذلك النصيب كبير، فإنه كان في نظر «الهيئة» غير كافٍ لتمويل كل احتياجاتها.
معابر وإتاوات
حرصت الجماعة المتطرفة على توجيه بوصلة المعارك بما يضمن لها السيطرة التامة على جميع المعابر الحيوية بين إدلب ومحيطها، سواء مناطق سيطرة الحكومة السورية في كلّ من حلب وحماة وريف إدلب (مورك، العيس، أبو الضهور، خان العسل…)، أو مناطق سيطرة المجموعات المسلّحة العاملة تحت راية «درع الفرات» و«غصن الزيتون» عبر عفرين (الغزاوية، دير بلوط)، مع ما يعنيه هذا من ضمان تحصيل مبالغ طائلة من طريق الرسوم والإتاوات التي تفرضها على «التجارة البينية» وعمليات التهريب، أو عبر قيام أشخاص محسوبين عليها بنشاط تجاري مماثل.
كما اهتمت «النصرة» بتشديد قبضتها على المناطق الواصلة بين «باب الهوى» ومدينة سرمدا (ريف إدلب الشمالي). وتعدّ الأخيرة المركز المالي والتجاري الأبرز في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق، علاوةً على كونها ممرّاً للدعم الإنساني الذي تقدمه منظمات دولية وأجنبية عديدة. كذلك، حاولت «تحرير الشام» الاستفادة من واجهتها «المدنية» المتمثّلة في «حكومة الإنقاذ» لتقديم «حلّ مقبول» لدى «الجهات المانحة» الرافضة للتعامل مع الجماعة الإرهابية. وعلى هذا الأساس، لعبت «الإنقاذ» دوراً أساسياً في هيمنة «تحرير الشام» على معظم الموارد المالية المحلية، من تجارة المحروقات، مروراً بقطاعَي الكهرباء ومياه الشرب، وصولاً إلى قطاع التعليم العالي (راجع «الأخبار» 29 آذار 2018). كما سُجّل في خلال الشهرين الأخيرين نشاط واسع لـ«حكومة الإنقاذ» في استثمار «المباني العامة» (أملاك الدولة السورية) الواقعة في مناطق سيطرة «النصرة» لجلب مزيد من الأموال، عبر بيع عدد كبير منها، وتأجير عدد آخر. وتُطبّق «الإنقاذ» السلوك ذاته في ما يخصّ عدداً من المباني الخاصة التي استولت عليها، لا سيما تلك التي لا يقيم أصحابها في إدلب. يُضاف إلى ما تقدم فرض إتاوات على جميع الأنشطة الاقتصادية (التجارية والصناعية والزراعية) تحت مسمّى «ضرائب».
«العملة الافتراضية» في الخدمة
دخلت «تحرير الشام» أخيراً على خط اعتماد العملة الافتراضية «بيتكوين» لتلقّي التبرعات والتمويلات من مختلف أنحاء العالم. وتأمل «الهيئة» الاستفادة من هذا «التطوّر» لتعزيز أمن الشبكات العاملة لمصلحتها في مختلف أنحاء العالم، في مجالَي جمع التبرعات وتبييض الأموال. وتكمل هذه الخطوة سلسلة إجراءات «الهيئة» لتحصيل الأموال، وتنويع وسائل تلقّي التبرعات الخارجيّة، بعدما اعتمدت لسنوات طويلة على «التمويل بالشنطة» في الدرجة الأولى. ويتيح هذا التنويع هامشاً أوسع لـ«الهيئة» على صعيد «استقلالية القرارات»، والتخفيف قدر الممكن من تأثيرات الداعمين الإقليميين.
الإغاثة «تحت ظلال السيوف»
يشكو معظم المنظمات الدولية المتخصصة في الإغاثة، والجهات المانحة للمنظمات المحلية الناشطة في المجال نفسه، من صعوبة العمل الإغاثي في مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام». ورغم أن معظم الجهات الدولية الداعمة كانت قد علّقت تمويل شركائها المحليين (جمعيات ومنظمات ومبادرات) عقب هيمنة «تحرير الشام» على كامل إدلب، فإن تلك الجهات سرعان ما استأنفت الدعم، الذي يعني إيقافه كوارث إنسانية فعلية تطاول المدنيين. وتحرص «حكومة الإنقاذ»، ومن خلفها «تحرير الشام»، على تقييد عمل «المجتمع المدني» والجهات المانحة والمموِّلة، وتوجيهه حصراً وفق ما يخدم مصالحها، سواء لجهة اشتراط الحصول على نِسبٍ ممّا يتم توزيعه، أم فرض نطاق توزيع المعونات. وتنظر «تحرير الشام» إلى عمل تلك المنظمات على أنه مصدر خطر محتمل، بسبب ما قد يشكله من هوامش للسكان بعيداً عن تحكم «الهيئة» في أوضاعهم الاقتصادية، وما قد يتيحه من فرص عمل لشريحة الشباب، في وقت تسعى فيه «الهيئة» إلى جعل الالتحاق بصفوفها «أفضل طرق كسب الرزق».
الأخبار اللبنانية – صهيب عنجريني