موسكو ــ بكين ــ طهران: «سباق القطاف» يتسارع

الفوز بميناء طرطوس يبدو أقرب إلى كونه نقطة روسية على حساب الصين (وزارة الدفاع السورية)
دأبت وسائل إعلامية عدّة على ضخّ الأخبار عن «تنامي الصراع الروسي الإيراني في سوريا»، وتبويب كثير من تطورات المشهد السوري ضمن هذا الإطار. لكن المعطيات على أرض الواقع تشي بأن مفردة «صراع» تنطوي على مبالغات كبيرة، وأن العلاقة بين الطرفين أقرب ما تكون إلى «سباق على جني الفوائد»، يجاريهما في ذلك لاعب بارز صامت، هو الصين
«احتدام الصراع بين روسيا وإيران في سوريا». تمثّل الجملة السابقة عنواناً عريضاً لكثير من التحليلات والقراءات والمقاربات الإعلامية للملف السوري منذ شهور طويلة. وقد تزايد الضخّ الإعلامي المبني على العنوان المذكور منذ مطلع العام الحالي، وصولاً إلى الحديث عن «معارك عسكرية طاحنة بين الطرفين» في الأيام الأخيرة، الأمر الذي نفته «القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة» السورية. وعلى أهمية النفي السوري، ولا سيما أنه حمل صبغة رسمية في خطوة نادرة، فإن تتبع المعطيات الميدانية يبدو كفيلاً بتبيان فبركة تلك الأنباء، ولو لم يصدر النفي. ثمة سؤال واجب الطرح في هذا الإطار، عن دقة إضفاء صفة «صراع» على العلاقة بين موسكو وطهران في الملف السوري. تتحفّظ مصادر سورية عدة عن الخوض في أي تفاصيل تتصل بعلاقة دمشق بحليفيها الأساسيين، فضلاً عن مناقشة العلاقة بين هذين الحليفين، وتأثير كلّ منهما بعلاقة دمشق بالآخر، فيما يكتفي مصدر دبلوماسي بالقول لـ«الأخبار» إن «الحلف الذي عرف كيف يخوض الحرب في ذروة احتدامها، يعرف تماماً كيف يُنهيها منتصراً ومتماسكاً». يبدو هذا الكلام متوقّعاً في ظل ما عُرف عن المصادر السورية من التكتم على كثير من التفاصيل، والذهاب بدلاً من ذلك نحو عبارات عمومية مقتضبة.
حفل المشهد السوري على امتداد السنوات الماضية بتجاذبات بين أعضاء «حلف دمشق»، وتباينات في الرؤى حول الأولويات والضرورات ومسارات المعارك وتسخين الجبهات وتبريدها. إلا أن كل ما تقدم لم يصل حدّ «الصراع»، ولا سيما أن الميدان كان كفيلاً في كل مرة بتقديم البراهين على توافق تام حول الأهداف المشتركة الأساسية. وبرغم أن رقعة المعارك قد انحسرت اليوم، فإن تسخين بعض الجبهات ما زال أمراً وارداً. ويجدر التنبه دائماً إلى أن الدخول العسكري الروسي المباشر على خطّ الحدث السوري جاء بتنسيق عالي المستوى مع طهران، بل إن مصادر مختلفة كانت قد تحدثت عن «دور إيراني أساسي في إقناع موسكو» بالإقدام على تلك الخطوة. وتتجاوز العلاقة بين موسكو وطهران حدود المشهد السوري إلى المشهدية الإقليمية العامة، وصراع تغيير معادلة «أحادية القطب» الأميركية عالمياً، علاوة على مصالح اقتصادية شديدة الحيوية للطرفين. كذلك، تؤدي طهران دوراً محورياً في معادلة «أستانا» التي منحت موسكو أوراقاً شديدة التأثير في «اللعبة السورية»، كما في سباق اجتذاب أنقرة بعيداً عن واشنطن.
وتبدو أي قراءة واقعية للمعطيات السابقة كفيلةً بـ«تصويب البوصلة» لدى الحديث عن علاقة موسكو بطهران في المشهد السوري، وأخذه بعيداً عن خانة «الصراع». ولا ينفي ذلك وجود تنافر تام بين الطرفين في واحد من الملفات الحساسة في «الشرق الأوسط» برمّته، وهو ملف «الصراع مع إسرائيل». ولم ينشأ التنافر المذكور على هامش الحرب السورية، بل إن الطرفين كانا يعيانه تماماً منذ اللحظة الأولى لخوضهما الحرب إلى جانب دمشق. تأسيساً على ذلك، لا يمكن عدّ «أمن إسرائيل» (الذي يشكل أولوية ثابتة في موازين موسكو) عاملاً مفجّراً لـ«الصراع» مع طهران. أكثر من ذلك، تُدرك موسكو جيداً أن ورقة «الوجود الإيراني في سوريا» واحدة من أشد أوراقها فاعلية في الكِباش المستمرّ مع الغرب حول مستقبل سوريا. والأرجح أن استثمار هذه «الورقة» متى حانت ساعته، لن يكون ممكناً من دون رضى دمشق وطهران على حدّ سواء.
من هذه الزاوية، تمكن رؤية العلاقة بين روسيا وإيران (سوريّاً) بطريقة واقعية. وربما كان الأصحّ تبويب تلك العلاقة في خانة «السباق على القِطاف»، وهو سباق ذو شقّين، يبدو الاقتصاد حاملاً أساسياً لكليهما. أول الشقّين اقتصادي بحت، ويتمحور حول الاستثمارات والثروات الباطنية وإعادة الإعمار والعلاقات التجارية مع سوريا، سوقاً وممرّاً. أما الثاني، فاستراتيجي، ميدانه النفوذ السياسي، و«حِصانه» النفوذ الاقتصادي. والواقع أن «السباق» المذكور ليس محصوراً في موسكو وطهران، بل تُضاف إليهما معظم القوى المؤثرة في الصراع السوري، بما في ذلك تركيا، ودول الخليج، والاتحاد الأوروبي، وحتى الولايات المتحدة. لكن حليفتي دمشق تحظيان بميزة أساسية تخولّهما البحث عن المكاسب قبل الآخرين.
ثمة حليف ثالث لدمشق يمتلك الميزة ذاتها، ويُغفل كثير من وسائل الإعلام دوره المؤثر في مرحلة الحرب و«ما بعدها»، هو التنين الصيني. وإذا كان الفوز الروسي بميناء طرطوس من وجهة نظر البعض «ضربة روسية لطهران»، فإنه في الواقع يبدو أقرب إلى كونه نقطة روسية على حساب الصين. وسبق لبكين أن أشارت إلى أهمية «طرطوس» للتنمية الاقتصادية، وكان الميناء حاضراً في سياق توصيات صدرت عن «لجنة رسم السياسات والبرامج الاقتصادية في رئاسة مجلس الوزراء» السوري أواخر عام 2017 حول العلاقات الاقتصادية مع الصين. كذلك إن إعادة تأهيل ميناء طرطوس على يد موسكو كفيلة بقطع الطريق على خطط صينية لاستثمار ميناء طرابلس اللبناني، وهو أمر تشير إليه بوضوح تصريحات وزير النقل السوري الأخيرة حول «مرافئ دول الجوار» من دون تسميات محددة. وتشكل سوريا وجهة حتمية لاستثمارات صينية في شتى المجالات، وتعِد خطط الربط السككي الموعود بين سوريا والعراق فإيران بإمكانية التحول إلى جزء أساسي من المشروع الصيني الطموح «الحزام والطريق».
الأخبار اللبنانية – صهيب عنجريني