مملكة ماري

مملكة ماري إحدى ممالك الحضارات السورية القديمة والتي ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد.

تمهيد

ذكر علماء الآثار والمراجع التاريخية والباحثون أن حضارة مزدهرة أنارت بتطورها وقوانينها وتجارتها العالم القديم هي مملكة ماري التي قامت في سوريا حوالي عام 2900 قبل الميلاد، وكان تأسيس هذه المملكة عن طريق سلطة اجتماعية وسياسية ملكية كان لها حضور قوي وموقع دعم في المنطقة على نهر الفرات في سورية، فقامت حضارة عريقة متأصلة ارتقت بين الحضارات هي حضارة ماري، وكان لمدينة ماري عاصمة المملكة دور هام في الطريق التجاري الذي يتبع مسلك الفرات في سورية الداخلية.

ويعتقد أن الخارطة الجغرافية المتغيرة للمنطقة آنذاك حفزت نشوء كثير من المدن الجديدة، من جانب سورية من الساحل إلى الداخل وبلاد الجزيرة السورية وما بين النهرين، فكانت ماري ميناء على نهر الفرات ترتبط مع النهر بقناة مجهزة للملاحة النهرية واستقبال المراكب والسفن التجارية، ضرورة كواصلة بين الطرفين فهي تتوسط المسافة بينهم، فقامت وازدهرت حضارة من أهم الحضارات القديمة لذلك تمت العناية بعاصمة المملكة وهي مدينة ماري ومرافقها لتكون أحد أهم الحضارات المتطورة.

مخطط مدينة ماري

مخطط مدينة ماري الأصلي كان على شكل دائرة قطرها 19 كم رسمت وخطط لها كأفضل تخطيط لمدينة ملكية، كان للمدينة ميناء يتصل بقناة مائية مجهزة مع النهر (نهر الفرات) تؤمن الماء وتسهل وصول السفن التي كانت تبحر من ماري وإليها. وكانت المدينة محاطة بسور من كافة جهاتها عدا جهة النهر حيث كان المخطط الأصلي للمدينة على شكل دائرة كاملة تخترقها قناة متفرعة عن الفرات تؤمن جر المياه إلى المدينة وتسهل وصول السفن إلى المرفأ التجاري. ويُلاحظ أنه تم بناء السور ؛ ثم شيدت الأبنية داخله، وكان التوسع العمراني يتجه من المركز إلى السور. مع ملاحظة أن السور يحيط بكافة جهات المدينة عدا الجهة التي على الفرات. وكان د. بشار خليف (باحث سوري) قد كشف للمرة الأولى عن وثائق مملكة ماري الواقعة على الفرات بعد 74 عامًا من العثور عليها وترجمتها ودراستها من قبل الباحثين في الحضارات السورية القديمة في عدد من الجامعات الأوروبية.

وللمرة الأولى يطلع العالم على تفاصيل حياة هذه المملكة التي أنشئت في منطقة الفرات الأوسط (شرق سوريا) في الألف الثالث قبل الميلاد وكونت حضارة قوية كان لها علاقاتها وصلاتها مع باقي الحضارات والممالك في سوريا وبلاد ما بين النهرين والأناضول.

وثائق ومخطوطات ماري

اكتشف في ماري الكثير من المخطوطات والوثائق التي تدل على مدى الرقي والتطور التي ساد المملكة، ومن الوثائق اللافتة لمملكة ماري رسالة من حاكم المدينة إلى ابنه يستخدم فيها مثلًا شعبيًا سوريا لا يزال دارجًا حتى اليوم وهو كما ورد في الوثيقة التي تعود إلى أكثر من أربعة آلاف عام

الكلبة من عَجَلَتها ولدت جراءً عميانًا

قدمت وثائق مملكة ماري السورية معلومات عن وجود جمعيات للفقراء والمساكين كان يُطلق عليها اسم «الموشكينوم» بمعنى المساكين وهذا يدل على مدى الرقي الإنساني والحضاري للمملكة. وفي مجال الحرف الصناعية أظهرت وثائق ماري وجود 11 نوعًا من الزيوت، وهناك مستودعات للثلج. كما أن هناك في ماري 10 أنواع من العطور، ويشير المؤرخ الفرنسي جان بوتيرو إلى أنه في وثائقه تبين له أنه في ورشات ماري كان يصنع نحو600 لتر من العطور شهريًا. وكانت تصدر العطور إلى كافة البلدان.

كما دلت الوثائق على وجود 26 نوعًا من الحلي والمجوهرات، و31 نوعًا من أواني الشرب، و21 نوعًا من الألبسة الداخلية، كما استخدمت الستائر والبطانيات وأغطية الأسرّة. وعن نهاية مملكة ماري أشار الدكتور خليف إلى أن موت ملك آشور شمشي أدد فسح المجال للفاعلية العمورية في بابل عبر حمورابي من أن تتبلور وتضم إليها آشور ثم بلاد بعل يموت في بلاد الشام ومن ثم بدأ نجم مملكة ماري في العام 1760 قبل الميلاد بعد نحو 1140 سنة بالافول بعد أن كانت منارة من الحضارة الروحية والمادية والاقتصادية والصناعية والاجتماعية [1].

ماري ورقي الحضارة الإنسانية

ماري ورقي الحضارة الإنسانية: لعل الخوض في تاريخ ماري على الفرات الأوسط والتي امتدت فعاليتها التاريخية الحضارية لما يزيد على 1200 عام /من حوالي 3000 – 1760 ق.م/، تدفعنا إلى البحث في العوامل والمعايير التي أدت إلى اعتبار الألف الثالث قبل الميلاد، مفصلا أساسيا في حركة تطور الاجتماع البشري في سورية والمشرق العربي آنذاك حيث كانت هناك الكثير من الممالك والمدن في منطقة الجزيرة السورية والتي تعد من أقدم الحضارات الإنسانية على الإطلاق. ولعل هذا التطور لم يكن ليحصل إلا عبر استناده على مجمل حركة التطور والرقي التي شهدها المجتمع الإنساني في الشرق منذ نقطة انعطافه الأساسية التي تكمن في ابتكار الزراعة في الألف التاسع قبل الميلاد في سورية. فمن عالم الزراعة ومفرزاته أصبحنا أمام معادلات حضارية جديدة أدت فيما أدته إلى توالد منجزات ساهمت في تفعيل الحياة الإنسانية في كافة أوجهها الاقتصادية التجارية الاجتماعية الاعتقادية والحرفية والفنية.

وعلى هذا نستطيع فهم مقولة الباحث جاك كوفان من أن المعنى التقليدي لنشوء الزراعة يرتكز في معياره الحاسم على إنتاج المعيشة وأنه بهذا الإنتاج ،إنما بدأ في الواقع صعود المقدرة البشرية التي ليست حداثتنا سوى ثمرة لها، والجدير ذكره هنا هو أن ابتكار الزراعة لأول مرة في التاريخ البشري، تم في الشرق وتحديدا من المنطقة الممتدة من الفرات الأوسط مرورا بحوضة دمشق وحتى مناطق جنوب سوريا. ولتبيان أهمية هذا المنجز على صعيد الحياة الإنسانية فلا بد من تحديد الآفاق التي فتحها هذا الابتكار:

أولا:إن الاستقرار الذي وفرته الحياة الزراعية أدى إلى إحساس المجتمعات القديمة بالسلام والطمأنينة مما أدى إلى ازدياد أعداد أفرادها وتوسع مواقعها إلى مستوطنات زراعية أخذت تكبر باطراد مع الزمن مؤدية إلى منجز نشوء المدن الأولى وهو ما تمّ في المشرق في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد.

ثانيا: إن ما وفرته الحياة الزراعية من منتج ومردود دفع إلى التبادل التجاري النشط وتطور عالم التجارة مما أدى إلي ازدهار المواقع وغناها وهذا يستتبع توسعها وزيادة فاعليتها الاجتماعية والاقتصادية. أدى هذا المنجز وفق مقولة “الحاجة أم الاختراع” إلى استنباط وسائل أولية للعدّ تسهل من التبادل التجاري والسلعي ما اعتبر بداية لعلم الحساب والعدّ.

ثالثا: سوف تتوالى المظاهر التطورية لهذا الأمر وصولا إلى بدايات الكتابة، المتجلية في الكتابات التصويرية وذلك في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد.

رابعا: لا بد أن يؤدي ابتكار الزراعة إلى تطور تقنيات الصناعات الحرفية والفخارية بما سيساهم في تطور الفنون في مناحيها المجتمعية والفردية. وإن تراكم الخبرات التقنية عبر العصور هو الذي أدى إلى الدخول في عالم استثمار المعادن بدءا من النحاس فالبرونز ثم الحديد مرورا بالقصدير والفضة والذهب.

خامسا: إن نشوء الزراعات المروية جعل المجتمعات تنظم وسائل الري وجرّها عبر السواقي أو السدود أو الأقنية، ما اقتضى انبثاق سلطات مجتمعية تنظم هذه الأعمال مما أدى ذلك إلى نشوء السلطة في المجتمعات القديمة عابرة من السلطة المعبدية إلى السلطة الزمنية التي أكّدت انفصالها عن سلطة المعبد مع نشوء مدن الدول في الألف الثالث قبل الميلاد.

يقول الباحث بوهارد برينتس: “إن التطور الذي أدى إلى الثورة العمرانية ونشوء المدن الأولى /في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد/ لم يكن ليحصل إلا نتيجة لظهور الزراعة وتطورها وتقسيم العمل في الحرفة والزراعة وظهور التجارة. وان النمو الكبير لمردود العمل /حيث أنه في الزراعة، ازداد الإنتاج خمسة أضعاف عما كان عليه في مرحلة الصيد/ أدى إلى زيادة سريعة في عدد السكان، مما أدى إلى ظهور المدن الكبرى وبروز أشكال جديدة في حياة المجتمع”

إذن نصل من كل هذا إلى أن ثمة تواصلية في المنجز الحضاري لسورية والمشرق العربي القديم، ولعل التوالد الحضاري للمنجز هو الذي أدى إلى سلسلة واحدة من الإبداعات الحضارية، فالزراعة أدت إلى الاقتصاد الحضاري والزراعة أدت إلى تعميق وتنظيم وانتظام العلاقات الاجتماعية، وهي التي ساهمت في الازدهار والغنى الذي أدى إلى أوجه النشاط الاقتصادي التجاري، مما أوصل تلك المستوطنات إلى الاتساع والكثافة السكانية وبالتالي نشوء المدن الأولى. وهو الذي أدى إلى بزوغ عالم الرياضيات في نواته البسيطة ثم نشوء الكتابات التصويرية وتطورها إلى الكتابات الأبجدية فيما بعد.

ولا بأس من رصد أوجه الحياة في سوريا للفترة الممتدة بين منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، لتحديد المعايير والقواعد الأساسية التي أدت إلى نشوء المدن الأولى في المشرق العربي.

نشوء المدن وظهور الزراعة

سورية بين ظهور الزراعة ونشوء المدن الأولى (الألف التاسع ق.م _ 3500ق.م):

مع الألف الثامن قبل الميلاد نلاحظ أن الزراعة شملت معظم مواقع مناطق شرق سوريا فهي من أقدم مناطق الاستيطان البشري في التاريخ، بالإضافة إلى تطور تدجين الحيوان الذي بدء من هنا من قلب الجزيرة السورية. وقد لوحظ أن النمط المعماري للمساكن قد أخذ بعدا جديدا عبر التصاق المساكن ببعضها البعض، ما يعطي انطباعا بمعالم الاستقرار الدائم، وهذا ما يستتبع تعميق أواصر اللحمة الاجتماعية وترسخ التقاليد المجتمعية بحيث أن عالم الزراعة خلق إيقاعا مجتمعيا تبعا لإيقاع الطبيعة والفصول، وهذا ما انعكس في الذهنية المجتمعية وما تبدى من نشوء الأساطير الشفوية الخصبية وعوالمها الاعتقادية.

ولعل التطور المتبدي في أوجه النشاط الزراعي، والتعاون الاجتماعي المنبثق عنه أدى إلى تطورات في استخدام وسائل الري الصناعي عبر الأقنية والسدود والسواقي، وهذا سوف يؤدي إلى نشوء الزراعات المروية كالكتان مثلا، وهذا نجده قد تغفّل في حدود 6500 ق.م. وفي هذه الفترة أصبحنا أمام تطور معماري صحي، تجلى في إنشاء أقنية للتصريف داخل المنازل. وهنا لا بد أن نشير إلى موقع بقرص في سورية والعائد إلى /6500-6000ق.م/ ويعد من أقدم المواقع الأثرية في العالم. بالإضافة إلى نشوء أول قرية منتظمة بشكل مبكر، حيث أنشئت وفق مخطط معماري مسبق.

موطن الحضارة

الفترة الممتدة بين 6000-3500ق.م، أكدت الممالك السورية والمكتشفات على أن سوريا هي من أهم مواطن الحضارات في الشرق فمثلا إن موقع الكرم في البادية السورية، قدّم دليلا على ممارسة الزراعة المروية عبر جرّ المياه من الينابيع أو الأنهار (الفرات). وهي من أوائل المواقع التي دجنت الحيوانات وعرفت الزارعة. ولعل الاستقرار الذي أمنته حياة الزراعة أدى إلى ابتكارات وتقنيات جديدة في كافة المجالات. وتنبغي الإشارة إلى أن مواقع المجتمع المشرقي استخدمت المعادن ولا سيما النحاس منذ الألف الخامس قبل الميلاد. ومع حوالي 4500 ق.م سوف نجد مواقع الجنوب الرافدي وتبعا لإشراطات البيئة الطميية والمستنقعية تعمد إلى تكييف الوسط الطبيعي بما يلائم احتياجاتها فقد قام سكان هذه المواقع بمكافحة ملوحة التربة، وتجفيف المستنقعات ومارسوا الزراعة المروية بإتقان، ولعل استخدامهم لتقنيات الري الصناعي حتّمت نشوء سلطة مجتمعية وبنى اجتماعية متطورة وهذا ما أدى إلى تأسيس أولي للقاعدة المادية الاجتماعية لنشوء المدن الأولى مع نهاية الألف الرابع فبل الميلاد.

وعلى هذا يقول برنيتيس: إن الفترة الممتدة بين نهاية الألف الرابع قبل الميلاد وبداية الألف الثالث قبل الميلاد (فترة قيام مملكة ماري)، تلعب دورا خاصا في تاريخ البشرية، ففي هذه المرحلة قامت سلطة الدولة التي هي نتاج حركة المجتمع وتطوره.

سورية وما حولها في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد 3500 ق. م:

مع حلول منتصف الألف الرابع، أصبحنا أمام محددات عدة أدت فيما أدته إلى نشوء المدن الأولى في سوريا والمشرق. فالتطور الاجتماعي الاقتصادي التجاري الذهني شكّل رافعة حضارية مستمرة منذ نشوء الزراعة حتى هذا العصر. فكان طبيعيا أن نصبح أمام مجتمعات مركبة ذات علاقات حياتية معقدة فرضت وجود سلطات سياسية ولو في طورها الابتدائي بالإضافة إلى بدايات التواجد المؤسساتي للفاعليات التجارية والاقتصادية والحرفية.

وكل هذا يندغم بشكل متجانس مع تضخم العمران والتمدن حيث بتنا في مواقع هذه الفترة نعثر على معابد ضخمة. ولعل مواقع الجناح الشرقي للمشرق العربي تؤكد ما ذكرناه آنفا، فمن موقع مدينة أوروك إلى أريد ومرورا بتبة غورا أما مواقع الجناح الغربي فنجد تل براك وتل حلف في الجزيرة السورية العليا ومواقع مدن حبوبة الكبيرة الجنوبية وعارودة وتل قناص. وتشير الأبحاث الأثرية والتاريخية إلى تشابه النمط المعماري لمعابد تلك المواقع فيما بينها. ويبدو وأن الخط الحضاري آنذاك تطور متزامنا بين المواقع الرافدية والمواقع الشامية وهذا ما يوثق في بواكير نشوء الكتابة في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.

وبالاتجاه نحو الربع الأخير من هذه الألفية نجد ظهور الأختام الأسطوانية التي ابتكرت نتيجة الحاجة لها في التبادل التجاري والسلعي لكافة أوجه الحياة التجارية الزراعية والحرفية والحيوانية. حيث بتنا في هذه الفترة أمام أختام اسطوانية تخّتم البضائع وتحمل أسماء أصحابها.

الجدير ذكره هنا، هو أن مدينة حبوبة الكبيرة الجنوبية أنشئت على الفرات وفق مخطط مسبق ودقيق. وقد أحيطت بسور طوله 600 متر وعرضه ثلاثة أمتار. إن صفة المخطط المسبق للإنشاء والسور الواقي للمدينة سنجدها مكررة في نشوء مدينة ماري مع مطلع الألف الثالث وكذلك في تل الخويرة وإبلا وغيرها من الحضارات السورية القديمة.

وتشير الدراسات التاريخية إلى أن الواقع الديمغرافي في هذه الفترة كان يشمل السومريين والأكاديين، حيث يلاحظ تواجد أكادي إلى جانب السومريين منذ ذلك الوقت وهذا ما تؤكده معطيات الوثائق والاكتشافات الأثرية الحديثة

ويشير الباحث برينتس إلى أن السومريين وحين جاؤوا إلى المشرق العربي /الرافدي (سوريا والعراق)/ في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، أكملوا ما كان بدأه العبيديون /4500 _3500 ق.م/ وقد دل على ذلك بأن الكتابة واللغة السومرية احتوت على كلمات كثيرة مقتبسة ممن قبلهم، بالإضافة إلى أن الكثير من أسماء الآلهة السومرية مأخوذة من لغات الشعوب التي سكنت الرافدين قبل السومريين. كذلك يشير الباحث إلى أن المدن السومرية كلها تقريبا تحمل أسماء غير سومرية وتعود في أصولها إلى الحضارات التي سبقت السومريين /العبيديون/ وغيرهم من الحضارات السورية في المنطقة.

وباطراد ومع اقترابنا من نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، فإننا نجد أن مدن المشرق الأولى تمتلك مصالح اقتصادية تجارية حتمت نشوء السلطة الزمنية بديلا عن سلطة المعبد بحيث بدأت تنظم فاعليات الحياة المشرقية بما يتلائم مع تطور المجتمع في مواقعه المتعددة. وسرعان ما نجد أنه مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، مثل بعض المدن في شمالي شرق سوريا: تل العشارة _ تل ليلان _ تل براك وغيرها من مدن سورية قديمة. ونلحظ ظهور الموازييك في معبدها كأول ظهور له في الشرق.

الجدير ذكره هنا.. هو أن في هذه الفترة كانت الكتابة تخرج من عالم الحساب والعدّ باتجاه نشوء الكتابات التصويرية ومن ثم تحّول الصورة إلي رمز له قيمة صوتية مجردة. بحيث أصبحنا أمام ظهور لكتابات تسجيلية اقتصادية الطابع تحمل فواتير وسجلات لمواد واردة أو صادرة عن المعابد. ومع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد سوف نلاحظ أن مملكة ماري السورية بدأت إنشاء مدينتها وفق مخطط مسبق وداخل سور على الفرات الأوسط بادئة الخط الحضاري لسورية في عصر الكتابة.

يقول جان كلودمارغرون: “لقد سمح نهر الفرات لسورية أن تشرع بعملية التمدن، ذلك أنه يسّر لها التطور من خلال العلاقات التجارية انطلاقا من المدن السومرية في الألف الرابع قبل الميلاد. وهو دائما وأبدا وللأسباب ذاتها الذي ضمن تطور سورية الداخلية في الألف الثالث قبل الميلاد”.

إنشاء مدينة ماري 2900 ق.م

مطلع الألف الثالث قبل الميلاد: مع حوالي 2900 قبل الميلاد نجد أنفسنا أمام ظهور لمدن جديدة، بالإضافة إلى استمرارية لمدن من العصر السابق. فإلى جانب أوروك نجد كيش _ أور _ لجش _ شوروباك _ أدب في الجناح الشرقي، في الجناح السوري فسنجد مملكة ماري وتل الخويرة بالإضافة إلى وجود مواقع ك ابلا وأوغاريت وغيرها من ممالك ومدن سوريا القديمة. أما البروفيسور مارغرون فيؤكد أن ماري حسب الاعتقاد القديم هي عاصمة سومرية ولكن الأبحاث الحديثة تظهر أن ماري تمتلك صفات خاصة بها وإلى جانبها صفات سومرية وسورية قديمة.

ولعل من أهم خصائص دورة حياة هذا العصر:

أولًا: حصول تطور في مجال العمران وتقنياته مما أدى إلى توسع المدن وتلبية النظام العمراني لحاجات السكان المادية والروحية.

ثانيًا: انفصلت السلطة المعتقدية عن المجتمع عمرانيا، بحيث أصبحنا أمام معابد مفصولة عن المحيط المديني ففي العصر السابق أبانت مواقع مدن أوروك وحبوبة الكبيرة الجنوبية وعارودة وقناص أن المعابد كانت تقام في أحياء خاصة. مع ملاحظة أنه عثر في مملكة ماري على معابد الألف الثالث ومعبد مرتبط بالقصر الملكي /قصر معبد/ الذي يعد من أكبر القصور في الممالك القديمة، ما يشي باستقلالية ما عن الخط المعماري الذهني الاعتقادي الذي كان سائدا

ثالثًا: في مجال الحياة الفنية أصبحنا في هذا العصر أمام ظهور لاتجاهات فنية جديدة، سواء في الأسلوب أو المعالجات أو مواضيع المجالات الفنية. كل هذا تحقق في الفسيفساء والنقش على الأختام وصناعة الفخار.

رابعًا: لعل من أهم ما يميز هذا العصر هو توطد دعائم السلطة الزمنية وانفصال السلطة المعتقدية عنها، ونشوء مؤسسات تعنى بأوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية والحرفية.

يقول الباحث مارك لوبو: إن الإشغال البشري في سورية في الألف الثالث قبل الميلاد، كان أثره ملموسا في منحيين:

الأول في الزراعة

الثاني المتولد عن الأول والذي يتجلى في التجمعات المدنية وبناء الحضارات.

إن هذين المنحيين يتميزان في الانتشار الواسع والعميق بحيث بتنا أمام بنى اجتماعية واقتصادية لجماعات بشرية ومدن وممالك وصلت لمراحل متطورة في كافة المجالات التجارية والصناعية والفنية والاجتماعية وفي التنظيم والعلاقات والقوانين والتجارة وجميعها كانت من صفات مملكة ماري التي ارتقت بين الحضارات السورية القديمة.