كان على سوريا أن لا تقاتل، أن تخضع للهزيمة من دون مواجهة، أن تسمح للإرهابيين بالسيطرة على أقدم عاصمة في التاريخ، وأن تقوم إسرائيل الكبرى على أرضها. أما أن تقاتل وتصمد وتنتصر، فيعني أن تدفع الثمن حصاراً وتجويعاً
«النظام السوري يتعامل بعنجهية»، «الأسد ربح الحرب، لن ندعه يربح السلم»، «علينا الانتقام من الأسد»… بهذه التعابير، يختصر دبلوماسيون أميركيون وأوروبيون معنيون بالملفّ السوري، على رأسهم مبعوث الرئيس دونالد ترامب إلى سوريا السفير جيمس جيفري، سياسة بلدانهم ضد سوريا، في معرض تبريرهم لتصاعد حدّة العقوبات ضد الشعب السوري.
هي العقلية ذاتها التي يتعامل بها الأميركيون وأتباعهم الأوروبيون، منذ منتصف القرن الماضي، مع الدول التي لا تخضع لسياساتهم في العالم، فلا تفتح بلدانها اقتصاداتها للنهم الأميركي ولا تسلّم ثرواتها للشركات الكبرى. في حالة الشرق، يضاف أمن إسرائيل واستقرارها إلى لائحة الشروط الأميركية.
ولم يكن قانون «قيصر»، الذي صادق عليه الكونغرس الأميركي في كانون الثاني الماضي، سوى واحد من حزمة إجراءات «قانونية» و«عمليّة» ظالمة، اتخذتها واشنطن لإسقاط سوريا اقتصادياً، بعد فشل إسقاطها عسكرياً، في ما يسمّيه أكثر من مسؤول سوري بـ«المرحلة الثانية من الحرب». و«قيصر» أيضاً جزء من الاستراتيجية الأميركية الجديدة، الهادفة إلى إخضاع محور المقاومة. وتعتمد تلك الاستراتيجية على تكثيف العقوبات لتطال – عدا عن الكيانات والشركات والأفراد الذين يرتبطون بالمؤسسات الإيرانية والسورية وحزب الله مباشرة – كل من يتعاون مع الدولتين السورية والإيرانية أو من يؤمّن موارد تساهم في الاستقرار الاقتصادي في الدولتين، بما يردع حتى الشركات الروسية والصينية عن التعاون مع دمشق وطهران، مع توسيع هامش العقوبات في لبنان لكن ضمن ضوابط. والبارز في الاستراتيجية الجديدة، هو تقصير المهل الزمنية الفاصلة بين كلّ حزمة وحزمة جديدة، بعد أن تبيّن للأميركيين قدرة أطراف محور المقاومة، لا سيّما الكيانات الرسمية والعسكرية الرديفة، على تجاوز العقوبات في فترات قصيرة. ويتوقّع مراقبون لمسار ملف العقوبات، بالتزامن مع إصدار الحزمة الجديدة ضد إيران في أيار المقبل، صدور حزمة جديدة تستهدف سوريا، تشمل قطاعات حياتية جديدة تؤثر على الشعب السوري. كذلك أكّدت مصادر اطلعت على مداولات تدور في الكونغرس الأميركي لـ«الأخبار» أن عدداً من النّواب سيتقدمون قريباً بقانون عقوبات جديد تحت مسمّى «Anti- Assad Assistance».
الحصار الجغرافي
لا يقف الأمر عند حدود قوانين العقوبات الجائرة على سوريا، إذ أنه صار ممكناً تشخيص الحصار الجغرافي على دمشق. فالأميركيون والبريطانيون يجاهرون اليوم بسيطرتهم على الحدود اللبنانية – السورية عبر دعمهم تشكيل أفواج الحدود البرية اللبنانية، وزرع أبراج مراقبة على طول الحدود، تمهيداً للفصل مستقبلاً بين البلدين وبين المقاومة والجيش السوري ومنع خطوط التهريب التجارية من وإلى سوريا مع اشتداد الحصار. المخطط نفسه يجري إسقاطه على الحدود الأردنية – السورية، عبر زرع أبراج مراقبة ورفع سواتر ترابية وأسلاك شائكة، فضلاً عن إنشاء قاعدتين عسكريتين في الشمال الأردني، في إربد والمفرق. وعلمت «الأخبار» أن الأميركيين يعملون على إنشاء قاعدة عسكرية جديدة في منطقة السلط شمال غرب الأردن. وصعوداً من الجنوب السوري، نحو منطقة التنف، حيث يصرّ الأميركيون على استمرار سيطرتهم على المثلث الحدودي الأردني – السوري – العراقي، وقطع طريق بغداد – دمشق، وإبقاء الشريان العراقي مقطوعاً عن سوريا. ومع أن المنطقة الواقعة بين شمال السيطرة الأميركية في التنف والضفة الغربية لنهر الفرات على الحدود السورية – العراقية، تقع تحت سيطرة الجيش السوري والإيرانيين، مروراً بمعبر البوكمال، إلّا أن تردي الوضع الأمني في غرب العراق وتواجد القوات الأميركية قرب الحدود، مع انتشار إرهابيي «داعش» في البادية المفتوحة، يحول دون تحوّل هذا المعبر إلى شريان حيوي برّي رسمي وغير رسمي، مع غياب القرار السياسي العراقي الحاسم.
ولا يترك الاحتلال الأميركي للشرق السوري والاحتلال التركي مع العصابات الإرهابية المسلحة لمناطق ما يسمّى درع الفرات ومحافظة إدلب من الشمال الغربي، سوى البحر السوري ممرّاً للبضائع، مع سلاح العقوبات المرفوع ضد حاملات النفط من أي جهة أتت نحو الساحل، والمطاردة العسكرية في بعض الأحيان من سفن «التحالف الدولي».
حصار «الشلل»
يطال الحصار غالبية قطاعات الحياة والاقتصاد في سوريا، إلّا أن التركيز على الموارد البترولية والغاز وقطع الغيار يُظهر السعي الأميركي إلى إحداث شلل عام في البلاد، يطال المواطنين السوريين أوّلاً وكافة قطاعات الانتاج والكهرباء والقطاع الصحي وصولاً إلى الغذاء. زائر دمشق هذه الأيام، يلحظ انعكاس الشلل على القطاعات الخاصة وعلى المواطنين العاديين، فيما تستمر قطاعات الدولة السورية بالعمل. وهذا الأمر يُسقط الحجج الأميركية الواهية عن أن هدف الحصار هو «النظام السوري» أو ماكينة الدولة السورية، ليظهر على أرض الواقع أن التأثير الأكبر يقع على المواطن السوري. ولا يخفي جيفري وفريقه، وبعض الأوروبيين المتابعين، أن الهدف الحقيقي هو الضغط على الشعب السوري بهدف دفعه إلى التمرّد على الدولة وتحميلها المسؤولية. وهذه المرّة الخطة تطال الموالين للدولة وليس المعارضين. إذ يقطن مناطق سيطرة الدولة ما لا يقل عن 18 مليونا ونصف مليون سوري، وهؤلاء جميعاً ينهش الحصار آخر مقدراتهم بعد ثماني سنوات من الحرب.
في الأسابيع الماضية، رفع الأميركيون من مستوى حصارهم النفطي، بما انعكس سريعاً على الحركة الاقتصادية في البلاد، في انتظار أن تجد الدولة السورية وحلفاؤها حلولاً عملية للتحايل على العقوبات الجديدة، لا سيما تلك التي استهدفت سفن نقل المواد البترولية. الحقول السورية كانت تنتج قبل الحرب ما معدّله 400 ألف برميل يومياً، وفي عام 2011 تراجع الانتاج النفطي إلى حدود 270 ألف برميل مع شح الموارد في الآبار القديمة، وكانت الدولة السورية قد شرعت في خطة للتنقيب في آبار جديدة لرفع مستوى الانتاج وتأمين الاستهلاك المحلي والتصدير. أما اليوم، وبعد الخسائر الفادحة التي حلّت بالقطاع، لا سيّما ما أحدثته سيطرة تنظيم «داعش» على الحقول في البادية السورية، ثم وقوع عدد كبير من الحقول تحت الاحتلال الأميركي في شرق الفرات، يمكن القول إن سوريا الآن تنتج عُشر ما تحتاجه من النفط والغاز، أي نحو 24 ألف برميل يومياً.
الأخبارية اللبنانية – فراس الشوفي