خرج علينا رأس الإدارة الأميركية الحالية الرئيس دونالد ترامب بتاريخ الخامس والعشرين من أيلول من العام 2018، ومن على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ليقدم لنا رؤيته الشاملة للسياسة الدولية، ويقدم لنا لوحة بانورامية تعبر عما يراه إنجازات وتجاوزات ويحدد الأعداء والطامعين وكذلك الحلفاء الديموقراطيين على امتداد الساحة الدولية ودوما بحسب منظوره الخاص.
والمفارقة المؤلمة أن الرئيس الأميركي استهل كلمته من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة التي قيل يوما انها أسست بغية تحقيق الأمن والسلام الدوليين، ومن على هذا المنبر بالذات كانت من بين كلماته الأولى: “لقد وفرنا تمويلا قياسيا لجيشنا 700 مليار دولار هذا العام، و716 مليار دولار في العام المقبل -أي في العام 2019- وسوف يكون جيشنا أقوى مما كان عليه في أي وقت مضى” هذا التمويل القياسي للجيش الأميركي كما وصفه ترامب يبقى التخوف الأساس أين سيترجم؟ هل سيترجم فيما يشبه الحرب على أفغانستان؟ أو الحرب على العراق؟ أو التدخل المدمر في ليبيا وسوريا؟… الأيام القادمة كفيلة بالكشف عن نتائج هذا التمويل القياسي المقلق.
غير أن سياق خطاب الرئيس ترامب ولا سيما مستهله كشف الساحة المشحونة بالتحديات والتي تعبر إلى حد بعيد عن ماهية الحراك الأميركي الراهن في السياسة الدولية، انها منطقة الشرق الأوسط والتي سأحصر هذا المقال فيها، فانطلق الرئيس ترامب بكلامه عنها كما يلي: ” في الشرق الأوسط، فإن نهجنا الجديد يسفر عن تقدم كبير وتغييرٍ تاريخي جداً” ، وتابع محاولا تشريح منطقة الشرق الأوسط ليعرض على المجتمع الدولي ما ينظر اليه على أنه تقدم كبير وتغيير تاريخي، فشرع بداية بتحديد من هم بموقع الشركاء للولايات المتحدة في المنطقة فقال: “تعمل الولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر على تأسيس تحالف استراتيجي إقليمي حتى تتمكن دول الشرق الأوسط من تعزيز الرخاء والاستقرار والأمن في منطقتهم” ، ولم يترك الرئيس ترامب مكانا للتساؤل والاستنتاج فانتقل بعد تحديد الأصدقاء ليحدد العدو بوضوح ومن دون أي مواربة فقال: “قادة إيران يزرعون الفوضى والموت والدمار، إنهم لا يحترمون جيرانهم أو حدودهم، وينهبوا موارد البلاد لإثراء أنفسهم ونشر الفوضى في جميع أنحاء الشرق الأوسط وما وراءها” ، وعطفا على خطواته الذي وصفها بأنها إلى الامام قال الرئيس ترامب: “هذا العام اتخذنا أيضا خطوة هامة إلى الامام في الشرق الأوسط بالاعتراف بحق كل دولة ذات سيادة ان تقرر عاصمتها ونقلت السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس” ، ثم يقول في موضع آخر” “هناك إسرائيل، تحتفل بفخر بالذكرى السبعين لقيامها كديمقراطية مزدهرة في الأرض المقدسة” .
نستنتج مما ذكر الرئيس ترامب حول الشرق الأوسط أنه يعتبر قراره بتشكيل تحالف إقليمي من مجموعة من الدول العربية ووضعها بوجه إيران الذي جعل منها آلة لنشر الموت والدمار في جميع أنحاء الشرق الأوسط خطوة تصب في تعزيز الرخاء والاستقرار والأمن فيه! لكن أليست تجربة الحرب اليمنية التي لم تنتهي فصولها بعد وقد خلفت الاف القتلى والأسرى والمفقودين، وخلفت مجاعة تطال الملايين من اليمنيين أليست هذه التجربة تشكل الدليل الواضح والصارخ على فشل هذه المقاربة الكارثية؟!.
أليس تجاهل الرئيس ترامب وإدارته للعواقب الوخيمة والجسيمة لهكذا توجه بل والعمل على ترسيخه يشكل فتيل لتوتير وضرب الاستقرار الهش في الشرق الأوسط؟؟ وفي سياق متصل هل يستطيع الرئيس ترامب وإدارته أن يشرح لنا كيف يصب قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس في خانة تعزيز الرخاء والاستقرار والأمن في الشرق الأوسط؟! ناهيك عن اعتبار ترامب هذا القرار خطوة إلى الإمام! خاصة وأن القرار والخطوات الأميركية المنسجمة معه ولاسيما خفض تمويل “هيئة الاونروا” المعنية الأولى برعاية شؤون اللاجئين الفلسطينيين يشكلوا بداية مسار التصفية النهائية للقضية الفلسطينية وحتى تراجعا عما كانوا قد ابتدعوه سابقا وسمي حينها بحل الدولتين، ومما لا يحتاج إلى كثير استدلال أن أي عمل لإنهاء القضية الفلسطينية بهذه الطريقة المذلة سوف يفجر الشرق الأوسط برمته، وليس ببعيد عما نشير اليه يأتي الحديث عما سمي صفقة القرن التي أن سار أصحابها بمحاولة تنفيذها فلسوف تتغير معالم الشرق الأوسط وحتى خارطته السياسية…
وفي غمار حديث الرئيس ترامب عن الشرق الأوسط تناول الرئيس الأميركي خطوات ادارته الناجمة عن حرصها المزعوم على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط فقال: “شنت الولايات المتحدة حملة من الضغوط الاقتصادية لحرمان النظام الإيراني من الأموال التي يحتاجها لدفع جدول أعماله الدموي، وتابع نطلب من جميع الدول عزل النظام الإيراني” . أنطلق من الشق الأخير الذي طلب فيه الرئيس ترامب من باقي الدول المساعدة على عزل النظام الإيراني للقول إن الاستنتاج الأول من هذا الطلب هو أن الولايات المتحدة تعبر عن عجزها بالاعتماد على قدراتها الذاتية ان تحقق هدفها الرامي إلى كسر الموقف الإيراني وجرها إلى طاولة المفاوضات من جديد، وهنا يا حبذا لو يتنبه قادة الدول في الشرق الأوسط لمعنى تدمير البلاد والعباد في هذه المنطقة بغية جر ايران إلى طاولة المفاوضات!.
الاستنتاج الثاني نظرا إلى أن دول الاتحاد الأوروبي تبحث عن آلية مشتركة لتتخطى فيها العقوبات الأميركية من جهة، ومن جهة أخرى فان الاستثناءات التي تضمنتها العقوبات الأميركية بفعل الاضطرار لها مدفوعة بعلم الإدارة الأميركية، انه من الناحية التنفيذية وبفعل الحاجة الاقتصادية من الصعب جدا إلزام كل من الهند والصين وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان واليونان وإيطاليا وتركيا باستيراد النفط من مصادر أخرى بكلفة اعلى، لنخلص إلى أن العقوبات الاقتصادية الرامية للضغط على إيران وعزلها لن تنجح.
لا يستطيع أي متابع للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط إلا أن يلاحظ أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كلما ازداد الشرخ والتوتر بين ايران وجيرانها ولا سيما مع دول الخليج والذي يصفهم بأنهم شركائه ونحو ذلك، سرعان ما يبادر إلى ابتزازهم وتهديدهم بشكل غير مباشر حينا ومباشر حينا آخر، ففي خطابه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة قال” أوبك ودول أوبك كالعادة تمزق بقية دول العالم، وأنا لا أحب ذلك لا أحد يجب أن يعجبه ذلك، نحن ندافع عن العديد من هذه الدول من دون مقابل، ومن ثم يستغلوننا من خلال إعطائنا أسعار نفط مرتفعة” وللمزيد من الامعان في هذه السياسة وبتهديد مباشر بان وجود حكام هذه الدول على راس دولهم محفوظ بسبب الحماية الأميركية وأن عليهم أن يدفعوا المال مقابل هذه الحماية، قال ترامب في لقاء مع الجمهور في ولاية ميسيسيبي في 02-10-2018 وخلال جولته للتحضير للانتخابات النصفية في الولايات المتحدة: “نحن نحمي المملكة العربية السعودية، ستقولون إنها غنية؟ وأنا أحب الملك، الملك سلمان لكنني اتصلت به وقلت: “الملك نحن نحميك قد لا تكون هناك لمدة أسبوعين بدوننا، عليك أن تدفع مقابل جيشك،” وفي نفس السياق يأتي تصريح السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام حيث قال: “لولا أميركا لكان السعوديون يتحدثون الفارسية في أسبوع” ، وما قاله غراهام اسوة بترامب هو دليل إضافي على هذه السياسية الأميركية المهينة. وتجدر الإشارة إن رؤية الرئيس ترامب حول الشرق الأوسط في بنياها وفحواها جعلت من إيران العدو الغاصب الذي يدمر الشرق الأوسط وجعلت من الكيان الصهيويني واحة الديموقراطية! وهنا الحذر الحذر من تسلل نظرية العدو المشترك لتلميع صورة الكيان الصهيوني ووضعه في كفة الحليف المحتمل لرد الخطر الإيراني المزعوم، فإن الوقوع في شراك هذا الفخ يعني بالمحصلة تحقيق مقولة الصهاينة من النهر الى البحر وعلى دماء أهل المنطقة وبأيديهم….
في ملف الازمة السورية كان واضحا التحول في الموقف الأميركي، وبالطبع هذا التحول ليس مدفوعا بالرغبة الأميركية لحقن دماء السوريين ووقف التدمير المنهجي للبنى التحتية السورية أو حتى وقف موجات النزوح التي تروي قصة تشرد وتشتت شعب بأكمله تقريبا، لاسيما وأن الولايات المتحدة لا تقع تحت عبء هذه الازمة الضاغطة على دول الجوار، فحينما يقول الرئيس ترامب: “أن المأساة المستمرة في سوريا مفجعة، ويجب أن يكون هدفنا المشترك خفض التصعيد العسكري بالتزامن مع العمل على حل سياسي يستجيب لإرادة الشعب السوري، وفي هذا السياق نحث على إعادة تنشيط عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة” . امام هذا التحول تشعر انك تعيش بحالة من الصدمة والذهول فالمأساة المستمرة احد ابرز أسبابها كان التدخل الأميركي المتعدد الاشكال لقلب النظام السوري، وحينما يصبح خفض التصعيد العسكري هدف تدعوا الولايات المتحدة اليه بعد ان كانت تطالعنا بدفعات متتالية من اساطيلها البحرية وقواتها الصاروخية و… والعجب العجاب حين يتغنى الرئيس الأميركي بالحل السياسي الذي كان مطلب كل القوى الدولية الفاعلة باستثناء الولايات المتحدة، ويكتمل مشهد التحول الأميركي بالوقوف خلف الأمم المتحدة لتدفع عملية السلام قدما… نعم وحدها البراغماتية الأميركية تقدم التفسير لهذا التحول، فحين يخرج الواقع الميداني من القبضة الأميركية ويدخل على لعبة التنافس الجيوبوليتيكي قوى فاعلة كالصين وروسيا، وتصبح الثمار السياسية والاستراتيجية تذهب نحو الجانب الآخر في الصراع حينها تصبح الأمم المتحدة والحل السياسي أكثر جاذبية ومقبولية…
بناء على مجمل ما تقدم يتضح أن الشرق الأوسط مقبل في العام 2019 على مرحلة بالغة الخطورة والتعقيد، خاصة إذا ما استمرت إدارة ترامب بسياسة التصعيد في الملف الإيراني والعمل على اعتماد سياسة زرع الخصومة بين إيران وجيرانها في الشرق الأوسط ولاسيما مع دول الخليج، مما ينذر باستمرار النزف في اليمن أو تحريك أزمات كامنة في العراق أو البحرين أو لبنان، جنبا إلى جنب مع العمل على تصفية القضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في دول الشتات وما قد ينجم عن هذا المسار من اضطرابات سياسية وامنية…
النشرة اللبنانية – المقال يعبر عن رأي الكاتب